محمد شومان 

يمكن القول بتراجع اهتمام النخب والجماهير العربية بالمشروعين القومي والإسلاموي، على اختلاف وتعدد صيغ كل منهما، وهناك مظاهر عدة لذلك ربما تشجع على القول بنهاية المشروعين وضرورة البحث عن إعادة صياغة، أو بالأحرى ولادة جديدة لهما. لكن من المؤكد أن هناك أخطاءً وقع فيها ممثلو المشروعين، كما أن الصدام والصراع بينهما بدّد من حيوية كل منهما وقوته.

ومن أهم تلك الأخطاء انقلاب الحركات الإسلاموية من تأييد العروبة ودعم الجهود الرامية للوحدة العربية، إلى الانقلاب عليها ورفضها تماماً. والمفارقة أن الآباء المؤسسين للمشروعات الإسلاموية كانوا من مؤيدي العروبة والوحدة العربية، وطرحوا صيغاً مشتركة للتعاون والتعايش بين الإسلام والعروبة، وبين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية. لكن منذ خمسينات القرن الماضي انقلبت الحركات الإسلاموية ومنظروها على القومية العربية والوحدة، لأسباب عدة، سياسية وأيديولوجية، إضافة إلى آثار الصراع وتداعياته على السلطة والصدامات المتكررة بين جماعة «الإخوان» وبعض الحركات الإسلاموية من ناحية، والأنظمة العربية التي كانت تدعي العمل من أجل تحقيق الوحدة العربية من ناحية ثانية.

كان موقف مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا، داعماً عروبة مصر، والسعي إلى التعاون، أو حتى الوحدة العربية، حيث تأثّر إلى حد كبير بقراءة محمد رشيد رضا للقومية العربية وبقراءة محب الدين الخطيب بدرجة أقل، لكن موقفه ظل خاضعاً لاعتبارات عملية براغماتية تتعلق بمصلحة الجماعة. من هنا استخدم مصطلحات الوطن والوطنية والقومية العربية والعروبة والقومية الإسلامية، ودعا إلى الوحدة الإسلامية، وهيئة أمم إسلامية، والوحدة الشرقية، والوحدة العالمية... وتتداخل هذه المصطلحات وتتعدد استخداماتها.

لكن حسن البنا تحدث دائماً عن العروبة والإسلام، وكأنها شيء واحد، كما منح الوطنية أو القومية مشروعية الوجود والاستمرار، إذا التزمت بالأخوة الإسلامية قاعدة الجامعة الإسلامية وأساسها الشرعي. وتكاد تنحصر استخدامات البنا مصطلح القومية العربية بمفهوم ثقافي، في معرض رده على أنصار القومية المصرية، حيث كان يؤكد عروبة مصر والمصريين ويرى أن تمسكنا بالقومية العربية يجعلنا أمة تمتد من الخليج إلى المحيط. وعلاوة على العروبة بالمعنى الثقافي والسياسي يُكثر حسن البنا من استخدام مفهوم الوحدة، سواء كانت عربية أو إسلامية أو شرقية أو عالمية، ما يؤكد غلبة الجوانب العملية على نهجه في التفكير.

لكن ثمة انقطاعاً في النمو العضوي لمكانة العروبة ودورها في المشروع الإسلاموي بدأ، كما سبقت الإشارة، في منتصف القرن الماضي، وهو انقطاع يجسد إحدى إشكاليات هذا المشروع من زاوية ابتعاده من الواقع، وتخليه عن بعض الثوابت، كان من المأمول أن يستجيب لها بتجديد خطابه لا بالتخلي عن ثوابته، ودعمه العروبة، حيث أثبتت المشروعات الإسلاموية في مطلع القرن الماضي قدرة على التجديد وابتكار صيغ فكرية وعملية للتعاضد وللتكامل الوظيفي والمرحلي في الجهاد الوطني والقومي العربي والإسلامي، وأحياناً الشرقي والعالمي... (أعمال محمد عبده وشكيب أرسلان وعبد الحميد بن باديس ومحب الدين الخطيب وغيرهم).

حدث الانقطاع المأزوم وما نجم عنه من انقسامات وصراعات وصدامات في إطار عملية معقدة وسريعة يصعب تحديد خط زمني فاصل لبدايتها أو نهايتها، نظراً إلى خصوصية التحولات الفكرية وعدم القدرة على تعيين حدث أو تاريخ محدد لمراحل حياتها، لكن يمكن القول إن السنوات التي تقع بين الانتصار التاريخي عام 1956م، حتى نكسة 1967م، كانت بمثابة المجال الزمني لتبلور الانقسام وترسيخ هذه الإشكاليات بخاصة مع انهيار المشروع الناصري في السبعينات وبروز تيارات الغلو والتطرف الإسلاموي.

لقد بلغ المد الوطني التحرري القوموي ذروته في منتصف خمسينات القرن الماضي، وبدأت على المستوى العملي محاولات بناء دول وطنية حديثه، لكن تلك المحاولات شهدت صدامات دموية مع «الإخوان» وبعض الحركات الإسلاموية. ومع فشل الوحدة بين مصر وسورية، وبروز أزمة التنمية والاستقلال؛ وقع انقسام وهمي بين ما عرف بدول عربية تقدمية قومية، ودول محافظة أو رجعية. وفي إطار الصراع السياسي بينهما؛ تبنت الأخيرة شعارات إسلامية زائفة كالوحدة الإسلامية ومواجهة الخطر الشيوعي.

هكذا أدى اختلاف الاجتهادات والمشاريع النهضوية العربية إلى انقلاب المشروعات الإسلاموية على ثوابت النظر إلى العروبة والوحدة العربية على المستويين النظري والعملي حيث ظهرت قراءة تتمحور حول الانفصال التام بين القومية والإسلام على مستوى الأسس والغايات، ومن ثم استحالة التوفيق والمواءمة بينهما. وتبرز هنا أعمال سيد قطب الذي جرّد فكر المودودي في ما يختص بالحاكمية والتكفير والجاهلية والديموقراطية والقومية والوطنية من سياقه التاريخي– الاجتماعي ووظّفه في إطار الصراع السياسي مع النظام الناصري. لذلك كان من المنطقي أن يكفر قطب الدولة والمجتمع، ويطرح المرتكز العقدي –الإسلام الصحيح كما يراه– في تكوين الأمة عوضاً من القومية، ويرى في القومية نقيضاً للإسلام وأحد الأصنام والطواغيت كالاشتراكية والوطنية لا بد من تحطيمها. والغريب أن سيد قطب لم يقف طويلاً أمام مفهومي الوطنية والقومية على نحو ما فعل أستاذه وملهمه أبو الأعلى المودودي، بل اكتفى بمجرد الرفض الحاسم والسريع، وكأن القضية محسومة وواضحة بذاتها حيث إن القومية على النقيض من الإسلام وبالتالي لا مجال للشرح والتحليل. وعلى رغم بساطة هذا الطرح، فإنه حقّق ذيوعاً بين عدد من الجماعات الإسلاموية بدءاً من سبعينات القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة. هكذا يتجاوز سيد قطب القومية العربية التي كانت تعني في السياق التاريخي لصراعه مع عبد الناصر، السعي إلى الوحدة العربية، ويطرح المجتمع الإسلامي بديلاً، لكنه لا يوضح مجاله الجغرافي مكتفياً باستخدام مصطلحات (دار الإسلام) و(الأمة الإسلامية)، و(العالم الإسلامي). ومثل هذا القفز قد يطرح ضمنياً الوحدة الإسلامية مقابل الوحدة العربية، لكنه أفضى عملياً إلى نهج محلي (قُطري) منغلق على نفسه على صعيد الفكر والعمل الإسلامي لدى القطبيين وكثير مِن الجماعات الإسلاموية.

أما بقية القضايا، فهي غائبة أو مسكوت عنها، أو موظفة لتفعيل النهج الانقلابي القُطري شديد المحلية، والمتحلق حول الجماعة ذاتها، وذلك باعتبار أن الجماعة هي الناجية من النار، ومن ثم فهي مناط الانتماء، هكذا يتراجع الاهتمام بالانتماء الوطني أو القومي، وإذا ما جاء ذكرهما -ونادراً ما يأتي– فإنه يقترن دائماً بالكفر والاستعمار والماسونية واليهود؛ لأن الوطنية أو القومية لدى جماعات الغلو والتطرف فكرة غريبة لم تحقق الأهداف التي قامت من أجلها ولا يستقيم عليها أمر البشرية، ومن ثم لا مبرر لدى تلك الجماعات للرابطة الوطنية أو الرابطة العربية، فهما من أوهام السياسة، ومن أدوات المؤامرة ضد الإسلام.

بهذا النهج، فإن الانتماء أو الرابطة الأهم هي انتماء الفرد إلى الجماعة المتطرفة ذاتها، فهذا هو الانتماء الأهم، كما تحوّل العمل للوحدة الإسلامية والخلافة إلى عمل قُطري ضيق يهدف إلى استيلاء الجماعة (الرابطة الأهم) على السلطة. ومن ثم غاب العمل للوحدة العربية مقدمةً للوحدة الإسلامية كما اقترح حسن البنا، الأمر الذي يؤكد أزمة الجماعات الإسلاموية، وقصور الفهم النظري والحركي لأعضائها، فلا هم أدركوا إمكان توظيف العروبة في الحفاظ على الثقافة والهوية العربية، أو ضرورتها لتحقيق الوحدة الإسلامية. وحتى عندما يبشرون بالأخيرة، فإنهم يتحدثون عن انقلابات وفوضى أعم تشمل كل الدول الإسلامية حيث يدعون إلى تحرير العالم الإسلامي من جاهليته وإقامة دولة الخلافة، من دون طرح رؤية واضحة أو أساليب حديثة لتحقيق ذلك.