كمال بالهادي

تكلمت دول العالم وقالت بصوت موحد «لا لقرار ترامب»، وكانت الصفعة قوية لمندوبة أمريكا التي خيرت الانسحاب، بعد أن أيقنت أنّ العالم تحرر من سطوة واشنطن، وأنه الآن يرسم خطاً سياسياً عالمياً جديداً، يشق طريقه بعيداً عن الحلف الإسرا- أمريكي.


اعترف ترامب بالقدس عاصمة لدويلة «إسرائيل»، ولكن الجمعية العامة رفضت قراره بأغلبية 128 صوتاً مقابل تسع دول فقط أيدت قراره فيما احتفظت 35 دولة بأصواتها. هذه النتيجة أغضبت ترامب، وجعلته يمارس دبلوماسية العنف والوعيد ، عندما هدد الدول التي صوتت ضده بأنه سيرفع عنها المعونات. الآن وبموازاة معركة الشارع التي يخوضها الشعب الفلسطيني، وقدم فيها دماء و شهداء وأسرى، فإنه قد حانت المعركة الدبلوماسية، للاعتراف بالدولة الفلسطينية، كحقيقة ثابتة على الأرض. 
قادة السلطة الفلسطينية، تحدثوا عن مشروع قرار سيتم تقديمه للجمعية العامة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، دولة كاملة العضوية في هذا المنتدى الأممي. تقديم مشروع القرار الفلسطيني الجديد، يجب ألا يتأخر، ولا بدّ أن يكون براغماتياً بحيث يمكن أن ينال المساندة المطلقة من الدول التي آمنت بالحق الفلسطيني. وحتى يحقق المشروع أهدافه، لا بد من تنسيق عربي، و أن يكون المشروع مبادرة عربية متكاملة.


المعركة الدبلوماسية لن تكون سهلة، وستستخدم فيها الولايات المتحدة وحكومة الكيان المحتل، كل الأساليب لمنع تمرير هذا المشروع، ويمكن القول إنها ستكون حرباً دبلوماسية عالمية، سيقع على أساسها الفرز الحقيقي بين من هو مؤيّد للحق الفلسطيني وبين من هو مؤيد للمحتل. وهناك عدة مؤشرات يمكن استخدامها لاقتناص فرصة الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإجبار العالم على القيام بواجباته تجاه شعب محتل منذ نحو سبعين سنة.
المؤشر الأول هو الهبة الشعبية الفلسطينية التي أعقبت قرار ترامب، وهي انتفاضة جديدة لا تقل في أهميتها عن الانتفاضتين السابقتين اللتين جعلتا المجتمع الدولي يرضخ للمطالب الفلسطينية، ولكن الدبلوماسية التي أسقطت حق المقاومة لم تستطع أن تجني الكثير في فترة كان فيها العصر الأمريكي في أوج عنفوانه، خاصة أن فترة التسعينات كانت فترة الزهو الأمريكي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. واليوم هناك انتفاضة قائمة، وهي تستعد لطي شهرها الأول، وشبابها مصرّون على المضي حتى تحرير القدس.
المؤشر الثاني، يتمثل في تغير الظرف السياسي الدولي، فالعصر الأمريكي آفل لا محالة، وهو يترك موقعه لقوى سياسية عالمية، استعادت نفوذها، وتطرح خياراتها البديلة في كل القضايا الدولية، وقد اختبرت الولايات المتحدة هذه القوى وأيقنت أنّ هناك واقعاً جديداً سواء في مجلس الأمن أو في الجمعية العامة أو في بقية مؤسسات الأمم المتحدة. فتجربتا اليونسكو، ومجلس حقوق الإنسان، قد أكدتا أن العرب والفلسطينيين يمكن أن يحققوا نجاحات دبلوماسية على حساب الاحتلال يجبرونه على الانسحاب من فضاءات أممية هي في الواقع من حق الفلسطينيين. 
رئيس حكومة الاحتلال قال إنه أعطى أوامره بالانسحاب من اليونيسكو. هذا نصر أول على الكيان في انتظار نصر دبلوماسي ثان يتم الإعداد له. خاصة أن حكومة الاحتلال باتت تعتبر الجمعية العامة والأمم المتحدة هي «بيت الأكاذيب». وهذا يعني أن استمرار تحقيق الانتصارات في الأمم المتحدة ستجبر دويلة الاحتلال على الخروج من المنتظم الأممي، وهذا هو الواقع الصحيح، فمن المفترض ألا تكون هذه الدويلة موجودة باعتبارها دويلة احتلال ناشئة على أرض الغير ونابعة من وعد استعماري. يكفي أن تغضب الولايات المتحدة و»اسرائيل» حتى ندرك حجم الانتصار الدبلوماسي الذي حققه العرب في أروقة الأمم المتحدة، وهذا سند قوي يدعمهم في التقدم خطوة أخرى نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية. 


المؤشر الثالث، يتمثل في حجم العزلة التي تعيشها إدارة ترامب، بعد قرار القدس، وحتى قبله. ففي كثير من المناسبات أثبتت إدارة الرئيس الأمريكي أنّها تغرد خارج سرب الإجماع الدولي، فقد سبق وأن انسحبت من اتفاقية باريس حول المناخ، ما اعتبر ضربة قوية للمجهود الدولي الساعي إلى حماية كوكبنا من التغيرات المناخية التي تمثل أحد أهم الأخطار التي تهدد البشرية في الوقت الحالي. كما هدد ترامب بالانسحاب من حلف الناتو ومثل منذ قدومه للبيت الأبيض عنصر إزعاج لحلفائه التقليديين. النجاح الوحيد الذي حققه ترامب هو دق إسفين بين أوروبا وأمريكا، وهذا التناقض الحالي قلما حصل في عهود الرؤساء الأمريكيين السابقين، الذين احتفظوا بعلاقات وطيدة مع أوروبا. وعليه فإنّ هذا التناقض الأمريكي الغربي، هو فرصة للعرب كي يعززوا موقعهم في البيت الأوروبي، وهم لديهم من الإمكانات ما يجعلهم منافسين حقيقيين لأمريكا في الشراكة مع أوروبا. والثابت أيضاً أن العلاقة بين «إسرائيل» وأوروبا ليست في أفضل حالاتها، فتصويت الأوروبيين بما يشبه الإجماع لصالح رفض قرار ترامب، وقبلها تصويتهم في اليونيسكو لاعتبار القدس تراثاً فلسطينياً، ليس بالأمر الهيّن، ويجب استثماره في معركة الاعتراف بالدولة الفلسطينية.