محمـد أبــوالفضـــل

لم يتوقف النظام التركى لحظة عن مناكفة مصر، ومنذ سقوط حكم الإخوان المسلمين، والرئيس رجب طيب أردوغان مهموم بالبحث عن وسيلة للانتقام ممن أفشلوا مخططه للسيطرة على المنطقة من خلال بوابة الإسلام السياسى المتهالكة.

كلما بدأت الأمور الاقتصادية تأخذ طريقا إيجابيا، يأتى الرجل ليوقف تقدمها من النافذة السياسية، ولا يتورع عن بذل الجهد هو وجماعته للعودة إلى نقطة الصفر، ويصمم على مناطحة مصر عندما تواتيه فرصة مناسبة، ويأبى التخلى عن الانتقام.

حلقات المسلسل التركى طويلة ومتعرجة ودخلت منعطفات عديدة، يصعب حصرها فى واقعة بعينها، وحتى الجزء الظاهر منها والخاص بدعم الإخوان وإيواء الكثير من فلولهم، يبدو بسيطا إذا قورن بتصورات وتوجهات وممارسات أشد قتامة.

البداية، كانت من غزة، وبعضكم يتذكر النشاط التركى بذريعة دعم غزة منذ تمكنت حماس من السيطرة على القطاع قبل عشر سنوات، هو نشاط تركز على البعد الإنسانى ولم يقترب من المكونات السياسية التى تحافظ على جوهر القضية الفلسطينية، لعدم الاصطدام مباشرة بإسرائيل والولايات المتحدة. لزوم الايحاء بأن أنقرة تعمل على فك الحصار الذى فرضته إسرائيل، سيّرت سفينتها «مرمرة» إلى غزة حاملة بشرا ومساعدات وكاميرات تصوير، ولم تكرر المحاولة مرة أخري، لأنها تجاوزت الخطوط الحمراء التى وضعتها تل أبيب لأنقرة.

التطورات توالت بين زخم وتراجع، وفى الحالتين، وضعت أنقرة نصب عينيها الأهمية الإستراتيجية لغزة، كبوابة للاقتراب من مصر، وطرحت أفكارا تحمست لها إسرائيل، بشأن تطوير ميناء غزة، ولم تكتف بما يربطها من مكونات أيديولوجية مع حماس، ومدت بصرها إلى الرئيس الفلسطينى محمود عباس، الذى اكتشف مبكرا الخدعة وانصرف عن مخطط أنقرة.

المياه التى تدفقت على الفكرة التركية أغرقتها فى مياه البحر المتوسط، وكى لا تعود للواجهة، غضت مصر الطرف عن هوية حماس الإخوانية، وانخرطت فى التعاون والتنسيق معها، فى الملف الأمنى لتأمين الحدود ومنع تسريب المتشددين والأسلحة من غزة إلى سيناء، وإقناعها بجدوى المصالحة الفلسطينية. بالفعل حققت مصر نجاحا كبيرا فى الملفين (الأمن والمصالحة) دفاعا عن الأمن القومي، بكل ما يحمله من أهمية إستراتيجية، أبرزها، قطع رجْل تركيا فى غزة.

المثير أن أردوغان اعترف عقب اقتلاع داعش من الرقة فى سوريا، بأن عناصر من التنظيم فرت إلى سيناء، التصريح كان مفاجئا وصادما، وكلامه يعنى أنه يملك مفاتيح التنظيم الإرهابي، الذى لن يستطيع الخروج من سوريا إلا عبر الأراضى التركية. الجرأة التى تحدث بها أردوغان، فهمها البعض على أنها رغبة لترطيب الأجواء مع مصر، وأنه على استعداد لمدها بخريطة دقيقة لتحركات العناصر الإرهابية، بعد خروجها من سوريا والعراق، والتى حذر الرئيس عبدالفتاح السيسى من خطورة دخولها مصر من خلال الأراضى الليبية التى تنشط فيها عناصر داعش، ولتركيا باع فى تهريب الأسلحة إلى ليبيا.

القصة السابقة، تعاملت معها الأجهزة الأمنية المصرية بما يليق، ولم تستهن بتحذير أردوغان، الذى جاء عقب أيام قليلة من كشف خلية تركية تعمل بالتعاون مع عناصر إخوانية فى مصر، لإيجاد فتنة وتخريب مؤسسات الدولة.

على مدى السنوات الماضية، لم تكتف مصر بالتعامل مع تركيا عبر رد الفعل، بل امتلكت زمام المبادرة، وأجهضت محاولات كثيرة للعبث، أمنية وسياسية واقتصادية وإعلامية، وكان تطوير التعاون مع كل من اليونان وقبرص، لطمة قوية على وجه أنقرة، ورسالة تقول إن لدى مصر ذراعا طويلة بالقرب من الفناء الخلفى لها.

السودان، أصبح الحلقة الضعيفة فى الخاصرة المصرية، بدلا من أن يكون حلقة قوية، ورسائله لم تكن خافية على المتابعين لخطاب الرئيس عمر البشير، الذى درج على افتعال معارك، وتعمد فتح جراح قديمة، كلما تحسنت العلاقات مع مصر، ولم يخف طوال الوقت دعمه للحركات الإسلامية، وهى القاعدة الرئيسية التى تجمعه مع النظام التركي. الزيارة التى قام بها أردوغان للخرطوم الأحد الماضي، كشفت عن الوجه الحقيقى لكل من تركيا والسودان، وجرى توقيع مجموعة من الاتفاقيات تمكّن أنقرة من التمدد فى ربوع السودان، أهمها تطوير جزيرة سواكن فى البحر الأحمر، وما تحمله من ملامح عسكرية.

الفشل الذى لقيته تركيا فى غزة أجبرها على التطلع إلى سواكن، مستفيدة من الانتهازية التى يتمتع بها النظام السوداني، وجعلته ينقلب على مصر ويقف إلى جوار إثيوبيا فى مشروع سد النهضة، الذى يجلب أضرارا للبلدين، ويبتعد عن السعودية والإمارات بعد أسهمتا فى رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عن السودان.

الخطورة التى ينطوى عليها التقارب بين أنقرة والخرطوم ومعهما الدوحة، تكمن فى انطلاقه من دعم الحركات الإسلامية المتشددة، ومساندة الجماعات الإرهابية فى المنطقة، وتوفير غطاء لاستقبال الفارين من سوريا والعراق، وفتح مجال لصراع بديل بعد أن بدأت الأزمة فى سوريا تقترب من طريق التسوية السياسية.

الخطورة الثانية للتحالف الجديد، المتوقع أن تكون إيران قريبة منه، بحكم علاقتها الوطيدة بقطر وتركيا، أن فضاء التعاون ينطلق من الأراضى والموانى السودانية، وهى منطقة رخوة ومفتوحة على أزمتين مهمتين، هما ليبيا واليمن.

فى ليبيا لعبت، ولا تزال، الدول الثلاث (تركيا وقطر والسودان) دورا مهما فى تغذية الحرب، ودعم الميليشيات الإسلامية هناك، ويمكن أن يتزايد هذا الدور لخلط الأوراق، فى وقت بدأت العملية السياسية تتحول إلى بؤرة جذب إقليمى دولي.

أما الأزمة اليمنية، فمن السهولة أن يتحول السودان من عنصر داعم للتحالف العربى لعودة الشرعية، إلى عنصر سلبى مناهض للتحالف، الذى ابتعدت عنه قطر وتحرض عليه الآن لمصلحة إيران، وتسعى تركيا لتكون لها كلمة فى بعض الأزمات، بما يعيد لها بريق الزعامة العثمانية القديمة, الخطأ أو الحماقة، التى ترتكبها أنقرة والخرطوم، أنهما تتجاهلان ما لدى أطراف إقليمية كبيرة من أدوات، تستطيع الرد بها وبقوة على أى تصرفات تمس أمنها القومي، وكما جرى إجهاض سيناريو ميناء غزة يمكن لمصر إجهاض مخطط سواكن وأخواتها.