وليد محمود عبدالناصر

في ردودهم على أسئلة بشأن ما يرونه في ما يتعلق بأهم سمات العام الذي ينتهي بإذن الله خلال أيام، ذكر العديد من المعلقين والمراقبين والمحللين ممن ينتمون إلى بلدان ومناطق وثقافات مختلفة وخلفيات متباينة ومرجعيات متعددة من عالمنا، أن السمة الأبرز من وجهة نظرهم هي أن العالم خلال عام 2017 صار بلا قيادة تقود حركته وتوجه أنشطته في اتجاه تحقيق أهداف وغايات معينة أو تلبية احتياجات ومتطلبات محددة، واعتبروا ذلك مما ميز عام 2017 عما سبقه من أعوام. 

وذهب بعض من أدلوا بهذا الرأي إلى أن هذه الحالة تمثل حالة استثنائية في تاريخ العالم بشكل عام، وفي حقبتيه التاريخيتين الحديثة والمعاصرة على وجه الخصوص، وأن هذه الحالة لم تتكرر كثيراً في السابق بل كانت تمثل استثناءً على القاعدة. وسنركز في هذا المقال على وجهة النظر الأخيرة على وجه التحديد، وسنتناولها بالعرض والتحليل والتقييم من منظور يسعى إلى تأصيل وتأريخ تلك المقولة على خلفية الاختلاف معها والسعي لنقدها بشكل موضوعي ومن خلال منهج علمي بغرض تفنيدها وطرح البديل منها الذي يرى كاتب هذه السطور أنه يمثل انعكاساً أقرب لواقع التطور التاريخي لمسيرة البشرية على مدار قرون من منظور شكل النظم الدولية المتعاقبة وطبيعتها وهيكلها والأنماط التي سادت خلال الحقب التاريخية المختلفة والمعايير التي حكمت المراحل التي مر بها النظام الدولي على مدار الأطوار المتعددة التي شهدها.

فالقراءة المتأنية لتاريخ النظام الدولي منذ المراحل المبكرة من تبلوره ونشأته في الحياة البشرية بالصورة التي يمكن أن نطلق عليها تعبير «نظام دولي» وبما يستحقه هذا التعبير من استيفاء معايير ومؤهلات معينة، ثم نموه لاحقاً لأخذ أشكال أكثر تطوراً وصولاً إلى ما نعايشه الآن من صورته الحالية، تؤدي بنا إلى استنتاج مفاده أن هذا النظام شهد في أغلب مراحله، بما في ذلك في الحقبتين الحديثة والمعاصرة، غياباً على أرض الواقع لفكرة القيادة الواحدة أو الموحدة أو حتى المتجانسة لذلك النظام، سواء جاءت تلك القيادة من قبل دولة واحدة أو مجموعة محدودة من الدول المتحالفة معاً أو مجموعة أكثر اتساعاً متألفة من عدد أكبر من الدول أو حتى من جانب منظمة عالمية أو إقليمية العضوية وموحدة من حيث الرؤية لما تود أن ترى عليه شكل العالم وبنية النظام الذي يجب أن يحكمه ويقوده وطبيعة العلاقات السائدة فيه، وغالباً ما يأتي ذلك من منطلق منظور أيديولوجي يمثل الإطار الحاكم لمثل تلك المنظمة ويشكل العنصر الرئيس الجامع بين الدول المنضمة إليها.

فمن الصحيح على سبيل المثال أنه في عصر الإمبراطوريات التي نشأت وترعرعت في أحضان حضارات العالم القديم كانت هناك إمبراطوريات وممالك غالبة ومتغلبة في فترات زمنية معينة، سواء عبر فرض القوة المادية، وفي المقدمة منها القوة العسكرية، أو من خلال السيطرة السياسية أو عبر وسائل أخرى مثل السيطرة الاقتصادية أو الهيمنة الثقافية والعقائدية أو غير ذلك، ولكن كان هناك دائماً ما يمكن أن نصفه بحدود جغرافية قصوى لم تستطع هذه الإمبراطوريات تجاوزها، سواء لأسباب خاصة بالقدرة المادية المتاحة في ذلك الوقت لدى تلك الإمبراطوريات، أو كان منبعه طبيعة بعض هذه الحضارات والثقافات أو العقائد ذات الصلة بها المرتبطة بإقليم جغرافي محيط معين أو حدود تواجد جماعة قومية أو عرقية أو لغوية أو قبلية في حد ذاتها، أو كان ذلك بسبب الحدود القصوى لما مكنته منظومة العلوم والتكنولوجيا المتوافرة في تلك العصور من إمكانيات للانتقال والتحرك، أو ربما استندت حدود ذلك التوسع إلى قناعة تلك الإمبراطوريات ذاتها بأن الأولوية لديها تكمن في القدرة على السيطرة الفعلية أو الهيمنة وممارسة النفوذ على منطقة جغرافية في متناول اليد بشكل فعال ومؤثر ولأطول فترة ممكنة. 

وأخيراً وليس آخراً ربما كان السبب هو عجز تلك الإمبراطوريات عن معرفة حدود العالم من حولها وبالتالي عدم القدرة على التوصل الدقيق إلى المطلوب للسعي لأن تكون القوة الأكبر والأكثر هيمنة، ومن ثم قدرة على صياغة شكل النظام الذي يحكم هذا العالم، وفي كل الأحوال توقفت حدود طموحات تلك الإمبراطوريات على حدود العالم، حتى على المستوى النظري أو الافتراضي، عند المقدار الذي كان يتسع له حسها الإدراكي. وينطبق ما تقدم على حضارات وإمبراطوريات كانت توجد في بلدان ما يسمى اليوم الوطن العربي وجواره الجغرافي المباشر، مثل حضارات مصر والعراق واليمن وبلاد الشام وبلدان شمال إفريقيا وغيرها، وما جاورها من بلاد فارس والحبشة وغيرهما، بنفس الدرجة التي ينطبق بها على حضارات وإمبراطوريات آسيا القديمة في الصين واليابان والهند وغيرها.

وربما كانت الإمبراطورية الرومانية التي جاءت بعد ذلك هي التي مثلت أول حالة في تاريخ البشرية في صورتها المنظمة وفي ظل أشكال ما لما يمكن أن نطلق عليه «النظام الدولي»، وإن اختلفت نوعياً عما تلاها، والتي كانت الأقرب تاريخياً إلى مسعى محاولة صياغة نظام عالمي على النحو الذي رأته تلك الإمبراطورية وبما انسجم مع مسعاها لأن تكون معاييرها ومرجعياتها وأهدافها هي ذاتها التي يعتنقها العالم بأسره، وفوق ذلك كله أن تمارس هي بشكل مباشر السيطرة على هذا العالم عبر آليات القوة المباشرة، وهي أساساً القوة العسكرية، وتصوغ صورة أولية للقانون الدولي طبقاً لقناعاتها كما سعت بالمقدار ذاته إلى محاولة بناء نظام اقتصادي عالمي متمركز حولها، وذلك كله مرة أخرى في حدود العالم المعروف لتلك الإمبراطورية في زمانها.

أما في ما يتعلق بالحضارة العربية الإسلامية والدول والإمبراطوريات الحاضنة لها، فحتى إن كان المسعى التاريخي قد استهدف الوصول إلى حالة من السيطرة على أوسع نطاق ممكن من الأراضي المعروفة وقتها والمجتمعات البشرية التي تتواجد فيها بغرض صياغة نظام عالمي مختلف نوعياً بناءً على تعاليم الإسلام، أو بمعنى أدق رؤية كل من هذه الدول والإمبراطوريات لمضمون رسالة الإسلام وما حملته من منظومة من القيم والأحكام، فإن هذا الهدف لم يتحقق في أي مرحلة تاريخية من مراحل تلك الدول والإمبراطوريات وإن اتسعت حدود بعضها مثل حالة الخلافة في المرحلتين الأموية والعباسية وحالة الدولة العثمانية.

وعلى الجانب الآخر، فإن الإمبراطوريات الاستعمارية التي بدأت في أوروبا، وظهرت إرهاصاتها في الحملات الصليبية على العالمين العربي والإسلامي، ثم تحولت نوعياً في اتجاه مختلف في أعقاب حركة الإصلاح الديني وعصر النهضة والثورة الصناعية وحركة الاكتشافات الجغرافية للعالم الجديد، سعت، وللمرة الأولى في التاريخ الإنساني المعروف، أن تكون لها أطماع سيطرة عالمية وإملاء شروط الانتماء إلى نظام عالمي، استمر لقرون تالية متمحوراً حول أوروبا للقيادة والتوجيه له. إلا أن مثل هذا النظام كان أبعد عن أن يكون تحت قيادة مجموعة متجانسة من الممالك والإمبراطوريات الأوروبية نظراً لأن الصراعات على احتلال بقية العالم واستعماره والسيطرة عليه أو على أقل تقدير الهيمنة عليه سرعان ما دبت بين تلك الإمبراطوريات الاستعمارية، سواء في مرحلتها الأولى بين إسبانيا والبرتغال وهولندا، أو في مرحلتها التالية بدخول بريطانيا وفرنسا ثم أخيراً إيطاليا وألمانيا على خط التنافس الاستعماري العالمي، واستمرار الإمبراطورية العثمانية في السعي للحفاظ على ممتلكاتها عبر قارات العالم القديم.

وحتى مع دخول الولايات المتحدة بقوة في الساحة الدولية خلال وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، فلم تكن الدولة القائدة على صعيد النظام الدولي، بسبب عدم دخولها التنظيم الدولي الذي نتج عن تلك الحرب، متمثلاً في عصبة الأمم، والذي عجز بدوره أن يلعب دور القيادة نظراً للصراعات داخله ولفشله في حل عدد من النزاعات الدولية أو إنهاء حالات اعتداء صارخة ضد سيادة دول، وأخيراً وقفت عصبة الأمم عاجزة أمام تنامي المد الفاشي والنازي في أوروبا، وتحديداً في ألمانيا وإيطاليا متزامناً مع الحرب الأهلية الإسبانية وأهوالها، وأيضاً مع تصاعد النزعة العسكرية التوسعية في اليابان. كما لا تفوتنا الإشارة إلى انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 وبدء تبلور إرهاصات محاولات صياغة نظام دولي على أسس بديلة أيديولوجياً.

وفي زمن الحرب الباردة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، انتفت القيادة الموحدة للعالم أو حتى بين بلدان متحالفة أو مؤتلفة، في ظل الصراع بين المعسكرين الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي ثم بزوغ كتلة ثالثة تشكلت من البلدان النامية المستقلة حديثاً آنذاك تمثلت في حركة عدم الانحياز ومجموعة الـ77، ولم تتمكن الأمم المتحدة في ظل أجواء الحرب الباردة من أن تمثل ساحة لقيادة جماعية للنظام الدولي في ظل حالة الاستقطاب الدولي ومن ثم غياب التوافق داخل أجهزتها الرئيسة.

وأخيراً، وبينما تحدث البعض عن قيادة المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة للعالم في أعقاب انتهاء الحرب الباردة بانهيار الشيوعية في أوروبا وتفكك الاتحاد السوفياتي، فقد أثبت ربع القرن الأخير أن ذلك كان أقرب للأماني منه للتحليل الواقعي والتقييم العلمي للأمور، وأثبتت الأحداث والتطورات التي جرت على مدار تلك الفترة أن الأقرب نسبياً للواقع هم من دفعوا بطرح مرور العالم بمرحلة انتقالية في فترة ما بعد الحرب الباردة بما قد يتجه إلى عالم متعدد الأقطاب، حتى ولو كان ذلك بدوره فترة تحول تجاه هيكل جديد للنظام الدولي.

وفي ضوء كل ما تقدم، فمن الواضح أن التاريخ يثبت أن وجود قيادة واحدة أو متجانسة للنظام الدولي هو الأقرب إلى الاستثناء وليس العكس، وبالتالي لم يكن عام 2017 الاستثناء في هذا السياق بل كان أقرب إلى القاعدة الغالبة.


* كاتب مصري