طلال الجديبي

نشط قبل يومين هاشتاق "#سعودة_المحاسبة" في "تويتر" بمطالبات الخريجين الجدد، ومن ينظر لحال المحاسبين يتعجب، وذلك لسببين: الأول أنهم من أكثر الفئات حظا بتطور مجتمعهم المهني مقارنة بمهن أخرى محليا، ومع ذلك، هناك تفاوت كبير في حظوظهم من الاستفادة من هذا التطور، والثاني أن هذه الفترة تمر فيها تخصصات الإدارة والمالية عموما، والمحاسبة تحديدا، بأفضل حالات الطلب المحلي ربما على مر تاريخ هذه التخصصات على الإطلاق، حتى إن الشركات تستقدم وتستضيف اليوم من أقاصي الأرض جنسيات لم تكن تستفيد منها سابقا، وترضى بكفاءات لم تكن تقبل بها، وتستجدي الدولية منها فروعها في الدول الأخرى "للفزعة" التوظيفية العاجلة. 

ومع هذا كله، يندب المحاسبون الجدد حظهم ويطالبون بحصة أكبر من الاهتمام، ولهم في هذا الأمر حق، فالواقع متفاوت وفرص التطوير والاستفادة ليست موزعة بشكل عادل. هناك ثلاثة تغييرات رئيسة تمر بها المملكة في السنوات الحالية جعلت المحاسبين في أوج اهتمام مديري التوظيف، وربما تكون في عصرها الذهبي الذي لم تشهد مثله من قبل. 

الأول، الظروف الاقتصادية المتغيرة التي تشكل ضغطا كبيرا على عالم الأعمال وحتى على الجهات الحكومية وشبه الحكومية فترفع متطلبات الحوكمة وتعزز أسباب البحث عن الكفاءة التشغيلية الشاملة، بما يصب كطلب رئيس على قدرات وكفاءات فهم الأداء وقياسه، والمحاسبون بالطبع أول الفرق التي تترجم الحدث إلى أرقام يمكن التعامل معها. 

الثاني، اندماج المملكة في عدد من الممارسات العالمية وعلى رأسها معايير المحاسبة الدولية في تطور تاريخها مستمر منذ أكثر من عشر سنوات، آخر المحطات الكبرى بعد بضعة أيام؛ إذ تتحول جميع المنشآت بلا استثناء نحو تطبيق المعايير من بداية السنة الميلادية 2018. الثالث، التطور الضريبي الذي بدأ كذلك في 2004 ويقفز في هذه الأيام قفزة جبارة بتجربة تطبيقية لا مثيل لها في العالم كله لضريبة القيمة المضافة، إذ يتم تطبيق الضريبة بشكل شامل من الصفر بعد أيام من إطلاق تفاصيل النظام ومتطلباته. 

الاهتمام بتوطين المحاسبة وتحسين فرص شبابنا في عالمها المتجدد ليس طرفا من معادلة يقع المقيم على جانبها الآخر. طبيعة المحاسبة والمهن الفرعية المرتبطة بها تجعل احتياجنا لصبغة عالمية من الكفاءات أمرا دائما، فهذه لندن ونيويورك وحتى جوهانسبرج وسيدني تقوم محاسبيا على خليط منوع من الكفاءات، بل يتنوع المزيج ويصل لجنسيات أخرى غير تلك التي تطرأ على بالنا مثل الأوزبكي في لندن والسنغافوري في دبي والماليزي في سيدني. 

وهذا عائد في نظري لعالمية الممارسات المحاسبية وتجدد ديناميكيات العرض والطلب في سوقها العالمية خصوصا الاستثمارات العابرة للقارات. ولكن هذا لا يعني أن هناك قضايا عديدة في السوق المحلية تستحق التوقف. تقوم هيئة المحاسبين القانونيين بعمل جبار، ولكن من الظلم إلقاء كامل المسؤولية عليها أو انتظار كل التغييرات منها، فالأدوات في حقيبتها وإن تنوعت وتجددت إلا أنها لا تزال محدودة. 

ومن جانب آخر، هناك جزء ضخم من المسؤولية يقع على "مصانع" المحاسبين كذلك، وأعني أماكن التعلم والتدرب. من حاول توظيف محاسب في السنوات الأخيرة يعي البون الشاسع في قدرات حاملي شهادة دبلوم المحاسبة، خصوصا عند المقارنة مثلا بين خريجي الكليات التقنية وكليات المدن الصناعية أو معهد الإدارة، ومثل ذلك حاملو البكالوريوس. 

أما فيما يخص التدرب، فإن مهنة المحاسبة والمراجعة عموما، على الرغم من أنها أفضل المهن تنظيما وتطورا في الفترة الأخيرة، إلا أنها لا تزال تفتقد إلى برنامج تدريبي شامل ومؤثر، سمعنا عن كثير من الأفكار والمبادرات أخيرا، إلا أن حظ الخريج ضعيف على أرض الواقع. لا ننكر تحديات مكاتب المحاسبين القانونيين وعلى وضعهم الصعب بين مطرقة أسعار المراجعة المتدنية وسندان المتطلبات النظامية وضعف الإدارات المحاسبية التي تزيد من إرهاقهم، إلا أن حالتهم شبه ثابتة من سنوات طويلة في سوق متغيرة بشكل جذري. أعداد الخريجين وجودتهم تغيرت كثيرا في العقد الأخير، بينما لا تزال الإشكالات التي نسمع بها لم تتغير. 

عدد السعوديين الحاصلين على الخبرة الجيدة أيضا تغير بشكل جذري، ولكن هذا لم يصنع مديري مراجعة على سبيل المثال يقودون أعمالها على أرض الواقع، فالسعودي إما في قمة الفريق يقوم بالتوقيع على الأوراق، وإما في قاعه يقوم بجمعها. تفاءلنا خيرا في السنوات السابقة بوجود نسخة عربية من زمالة المراجعين الداخليين، وللأمانة، تقوم الجمعية بعمل لا يمكن التقليل منه في تنظيم ورعاية هذه المهنة المحورية لحوكمة الشركات. 

ولكن لا يزال الفراغ كبيرا، يظل عدد كبير من وظائف المراجعة الداخلية قائما على عقود مؤقتة تدار بمكاتب خارجية، وهناك عدد غير قليل من الشباب يتمنى لو يحظى فقط بفرصة التدرب في وظيفة مثل هذه. إن التشريح القطاعي للمهن يظهر لنا تحديات خاصة تستوجب التوقف، والمحاسبة ليست استثناء، وإن كانت تعيش في فترة ذهبية استثنائية من ناحية الطلب ونمو التطبيقات والممارسات. أعتقد بأن استراتيجيا ما مكلف بالربط بين كل هذه التحديات والفرص والإمكانات والاحتياجات لم يقم بدوره كما يجب، واليوم ننتظر منه أن يسارع بالقيام بواجبه تفعيلا لخطط التوطين وتعزيزا لبرامج التدرب وتحفيزا لجميع اللاعبين في هذه السوق المهنية المهم؛ ولا نجرد أي طرف آخر عن تحمل المسؤولية سواء مالك المكتب الذي لا يديره بأمانة أو الشاب الذي لا يخطط جيدا لمستقبله أو الخبير الذي لم يرشد من حوله.