محمد ناصر العطوان 

تبدو عليه الثقة والاتزان وحالة من الثبات الانفعالي وهو يردد على شاشة التلفاز عبارة «تجديد الخطاب الديني». ورغم أن المذيع يعلم، وكذلك المخرج وعامل الإضاءة، أن الضيف لم يحط علماً ودراية بالخطاب الديني القديم لكي يطالب بجديد، إلا أن جمله الرنانة ووضوح العبارة عنده جعلت الجميع يشك في يقين مثل هذا والتركيز حول ما يقال فقط والإعجاب المفرط، حد السذاجة، بإيماءات وتعابير وجه مستعارة من المسلسلات الأميركية.

ورغم أن عبارة «تجديد الخطاب الديني» تعتبر العبارة الأكثر ترديداً وشيوعاً في مقابلات كثير من زملائه، إلا أن هذا لم يمنعه من أن يرددها في اللقاء الأخير أكثر من 36 مرة.
وفي اجتماعاته مع هؤلاء الزملاء والزميلات، حيث يتم التحدث حول حرية الرأي واحترام الاختلاف، ولكن في جلسات كل من فيها يحمل الفكر والرأي والتوجه والرؤيا نفسها للدرجة التي تجعله أحياناً يشعر بأن ما يقوم به على مدار الشهر هو مجرد اجترار واستهلاك للأفكار والمصطلحات نفسها مع الأشخاص أنفسهم، ولكن في أماكن مختلفة!
لذلك، ففي الفترة الأخيرة، بدأ يصرح فعلياً لأصدقائه المقربين جداً أننا نحن معشر «تجديد الخطاب الديني» نحتاج إلى تجديد في خطابنا العلماني، ولكنه سرعان ما تخطى هذه المرحلة، عندما أقنعه أحد أصدقائه بأن هذه فكرة يحاول حراس المعبد وكهنة الهيكل وتنظيم الإكليريوس الديني ترسيخها لكي يشككوا فرسان التنوير وأبناء النور خلفاء إيكاروس الباحث عن الحقيقة في أن يمضوا قدما نحو «تجديد الخطاب الديني» فعلاً.
ورغم أن هذه الحجة كانت كافية لإقناعه، إلا أن هذا النقاش بين الصديقين تسرّب بفعل فاعل لفرسان الطاولة المستديرة المشعة بكل فلسفات الدنيا عدا فلسفة الشرق، والهوس بكل ما هو إغريقي، والتحفظ من كل ما هو إسلامي. ولكن هذا الجو المتسامح لم يستطع أن يمنعهم، كأبناء للنور، من أن يفكروا ألف مرة قبل أن يرسلوا هذا المتشكك ثم المقتنع على مضض إلى أي لقاء تلفزيوني أو إذاعي آخر لكي يعرض أفكارهم وتوجهاتهم مثل حرية الرأي واحترام الاختلاف ومجموعة من المبادئ السهل سردها والصعب تطبيقها... حتى بين الفرسان أنفسهم، ولذلك قرروا أن تتم إزاحته من الواجهة الإعلامية.
وبحكم مبدأ الشفافية، فقد وصل الخبر من طرف ثالث لذلك الذي أبدى الشك حول أهمية «تجديد الخطاب العلماني»، فوقع عليه الخبر كالصاعقة، وتعرق جبينه وزادت ضربات قلبه وشعر بإحراج مذيع اتصلت به زوجته على الهواء، ولم يكن سبب فقدانه لاتزانه الانفعالي هذا هو كون فرسان التنوير قد تخلوا عنه بقدر غيظه من أن يكون منافسه اللدود في تفسير أقوال نيتشه داخل الاجتماعات هو من ينقل له هذا الخبر.
اعتصر قلبه الألم، وشعر بالضعف والإهانة للدرجة التي جعلته يروي ما حدث لأحد أصحاب عبارات «أختاه... أنتِ درة»، وما كان يتخيل أن يحدث هذا يوماً، ولا يدري لماذ تذكر فولتير الذي اعترف لقسيس وهو على فراش الموت بعد أن أمضى عمره في محاربة من يتكلمون باسم الله.
كاد الشيخ يطير فرحاً ويرقص طرباً لما سمعه من صاحبنا المسحوب منه البساط، ووعده بأن يخصص له برنامجاً تلفزيونياً كاملاً، شرط أن يسرد تجربته هذه على العلن، وأن يحاول بكل ما أوتي من فجر في الخصومة أن يوضح للناس كيف يفكر هؤلاء القوم.
اختفى صاحبنا المتشكك في صبيحة اليوم الأول لتسجيل البرنامج، فتنازع القوم في أمره، وقال بعضهم إنه مات وإن جسده سيدخل الجنة بينما ستدخل بعض أفكاره القديمة النار، وقال آخرون إنه اعتزل في الصحراء وتاب توبة لو وزعت على رواد الشواطئ لوسعتهم. أما أبناء العلمانية فقد اعتبروه قد ضل طريقه عندما قفز من دائرة المعارف إلى دائرة الموسوعة الفقهية.
أما آخر تغريداته في «تويتر»، فكانت:
«نحن بين طرفي المقص في ما بين (تجديد الخطاب الديني) وما بين (أختاه... أنتِ درة)!... وكل حزب بما لديهم فرحون. والله أكبر وأجل وأرحم».