الحسين الزاوي

واجه العراق منذ الأسابيع الأولى من الغزو الأمريكي تحديات خطيرة، شارفت خلالها الدولة العراقية على التفكك والانهيار، نتيجة للبنية الطائفية والعرقية للسلطة المبنية على فكرة المحاصصة السياسية التي أقامتها قوات الاحتلال، بعد إقدام رئيس الإدارة المدنية الأمريكية في بغداد بول بريمر على حل المؤسسة العسكرية العراقية. وقد استطاعت الدولة العراقية بالرغم من كل ذلك، من إعادة تشكيل الجزء الأكبر من قواتها الأمنية بعد سنوات من الخلاف بين الكتل السياسية بشأن العقيدة العسكرية الجديدة للجيش، وتمكنت هذه القوات الأمنية مؤخراً من تحرير كل الحواضر العراقية ومن القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، ونجحت في السياق نفسه في استعادة مدينة كركوك من قبضة «البيشمركة» ومن إبطال الآثار السياسية الناجمة عن استفتاء انفصال إقليم كردستان، الذي جرى تنظيمه خلال شهر سبتمبر/ أيلول من السنة الجارية. 
ونستطيع القول في سياق هذا التحليل، إن الاستراتيجية المبنية على التوافق على الحد الأدنى من الإجماع الوطني التي اتبعها رئيس الوزراء حيدر العبادي، كان لها دور كبير في التخفيف من حدة التوتر والصراع الطائفي بين مختلف مكونات الشعب العراقي، وفي إنجاح العملية العسكرية الهادفة إلى القضاء على المجموعات الإرهابية؛ لكن هذه الاستراتيجية تبدو الآن غير كافية من أجل تضميد جراح العوائل المكلومة واستكمال تحرير النفوس بعد تحرير الثغور. إذ إن الاعتراف السياسي والقانوني بالطابع التعددي والفسيفسائي للمجتمع العراقي لا يكفي لإرساء ثقافة السلم والوئام المجتمعي بين مختلف مكونات الشعب، ومن أجل الوصول إلى بناء دولة مدنية وعصرية قادرة على ترسيخ أبجديات حكم ديمقراطي يؤمن بقيم المواطنة وحقوق الإنسان. 
لقد أجمعت في الآونة الأخيرة، معظم التشكيلات الوطنية ومعها كل القوى الإقليمية المؤثرة في المشهد العراقي، على تثمين النداءات الداعية إلى التأكيد على ضرورة أن تكون مؤسسات الدولة الأمنية محتكرة لعمليات استخدام القوة والعنف المشروع، من أجل الحفاظ على السلم الأهلي والدفاع عن الوحدة الترابية للدولة العراقية. وجاءت أبرز تلك النداءات من طرف زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، الذي دعا بتاريخ 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري الميليشيات العراقية المختلفة إلى حصر السلاح بيد الدولة، وتزامنت هذه الدعوة مع تصريحات مماثلة للمرجع الديني آية الله علي السيستاني، دعا فيها إلى دمج كافة الميليشيات داخل مؤسسات الدولة حتى يتسنى للأجهزة الأمنية القيام بعملية حصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية، وفقاً للأطر القانونية والدستورية. 
ويذهب الكثير من المراقبين للشأن العراقي، إلى أن هذه التصريحات وعلى الرغم من مضامينها الإيجابية، إلا أنها تثير أسئلة كبيرة بشأن طبيعة المشهد السياسي في بغداد وحول هوية الأطراف الفاعلة والمؤثرة في رسم خطوطه العامة، حيث تدفع الخلفية الدينية لأصحاب هذه الدعوات، هؤلاء المراقبين إلى البحث عن الأسباب التي تجعل القوى المدنية في العراق تقف على هامش المشهد، وتترك قيادة اللعبة السياسية للقوى الدينية بصرف النظر عن هويتها الطائفية. 
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن معظم الأحزاب السياسية المعتمدة التي لا تخفي صلتها بالمرجعيات الدينية وعلاقتها بالإسلام السياسي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ ويبرز كل ذلك بشكل جلي عندما تلجأ شخصيات قيادية مرموقة إلى محاولة الحصول على مباركة رجال الدين في قضايا مدنية ودنيوية مصيرية تتعلق بمستقبل الدولة وأسس الممارسة السياسية في البلاد. كما أن صلة الكثير من رجالات السياسة بالمجامع الدينية واضح لا لبس فيه، وقد أثارت ممارستها الكثير من اللغط الإعلامي خلال السنوات الماضية، كما هو الشأن بالنسبة لنوري المالكي الذي تقلد منصب رئيس الوزراء من سنة 2006 إلى 2014. 
ويمكننا بالعودة إلى الموقع الإلكتروني لحزب الدعوة تأكيد صلة الكثير من السياسيين العراقيين بالإسلام السياسي، حيث يشير هذا الحزب إلى هذه الصلة من خلال إحالته بشكل واضح لمقولة مشهورة للمفكر والمعارض لنظام حزب البعث، السيد محمد باقر الصدر، يذهب فيها إلى أن: «كل وعي سياسي لا يمتد إلى الإسلام فهو سطحي...». إن مجرد الإحالة إلى الإسلام بوصفه يمثل أحد المكونات الحضارية للأمة التي لا يمكن لأي كان أن يعترض عليها، إلى حد التأكيد على الصلة الوثيقة ما بين الممارسة السياسية والدين من منطلق اعتقاده أن الوعي السياسي البعيد عن الدين «يدرس العالم من زاوية المادة البحتة التي تمون البشرية بالصراع والشقاء..»؛ وهذا ما يفسر اعتقاد محللين سياسيين عديدين، أن حزب الدعوة العراقي يمثل النسخة الشيعية لحركة الإخوان المسلمين السنية. 
لا يتعلق الأمر في زعمنا بمصادرة حق الشخصيات السياسية في تبني قناعات بعينها، بدليل أن رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، وبالرغم من كونه أحد الزعماء البارزين في حزب الدعوة، إلا أنه كان أكثر حيادية في ممارسته السياسية، واستطاع أن يحوز على دعم الكثير من الكتل السياسية التي تتبنى خلفيات مذهبية مغايرة. لكن هذه الحيادية النسبية ذات الصبغة التكنوقراطية، التي جرى تثمينها على المستويين الداخلي والإقليمي، يطمح الآن الكثير من العراقيين إلى رفعها إلى مستوى الحياد المؤسساتي، بشكل يلزم أجهزة الدولة وسلطاتها التنفيذية بأن تقف على مسافة واحدة في تعاملها مع مواطنيها. الأمر الذي يستوجب في اعتقادنا إجراء إصلاحات قانونية ودستورية جديدة تكرِّس مبدأ الحياد والفصل بين السلطات، والتخلي عن ذهنية المحاصصة التي وضع أسسها المحتل الأمريكي، اعتماداً على مقاربة سياسية جديدة تسمح للشعب العراقي بالتخلص وإلى الأبد من كل أشكال الإرهاب بمسمياته الطائفية والمذهبية والعرقية.