عبدالله السناوي

الإرهاب يضرب بغتة بلا سابق إنذار، ومواعيده خارج التوقعات، باستثناء احتفالات أعياد الميلاد.
صبيحة الأول من يناير/كانون الثاني (2011) استُهدفت كنيسة «القديسين» في الإسكندرية بتفجيرات مروعة دوت في محيط المكان، أزهقت أرواحاً، وروعت مصر بأكملها. كان ذلك إحدى الإشارات الرئيسية على قرب نهاية عصر «حسني مبارك»؛ حيث بدا نظامه عاجزاً عن حماية مواطنيه الأقباط.
لم يكن الحادث بذاته سبب سقوط النظام بعد (25) يوماً؛ لكنه زكى مشاعر اليأس العام من صلاحيته للحكم، وإمكانية إصلاحه من داخله.
غير أن الجماعات المتطرفة، باختلاف مسمياتها، استقر في وعيها أن استهداف الكنائس من مقدمات إسقاط النظم.

ربما لهذا السبب قبل غيره استُهدفت الكنائس على نطاق واسع يوم فض اعتصامي «رابعة العدوية» و«النهضة» مع أقسام الشرطة ومؤسسات أخرى في الدولة.
جاءت النتائج عكسية، وأمكن تخفيض مستويات الخطر بوقت قياسي، فلم يكن المجتمع المصري مستعداً لتقبل همجية العنف تحت أية ذريعة؛ وقد كان تصريح البابا «تواضروس الثاني»، أن «وطناً بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن» ملهماً للتماسك الوطني في لحظة ترويع ووأد لأي فتنة طائفية محتملة. رغم ذلك، تواصل على نحو منهجي مقصود استهداف الكنائس بأعمال انتحارية طلبت إسقاط أكبر عدد ممكن من الضحايا، حتى تكون رسالة الترويع عند أعلى درجاتها.
هكذا ضربت «الكنيسة البطرسية» المجاورة لـ«كاتدرائية العباسية»؛ حيث كان يصلي البابا في 11 ديسمبر/كانون الأول2016، كان التوقيت مدروساً؛ حيث لم يتوقع الأمن أن تأتي ضربة أعياد الميلاد قبل مواعيدها بثلاثة أسابيع.
على خلفية التراخي الأمني، حدث شرخ لا يستهان به داخل الكنيسة، وتعرض البابا نفسه لانتقادات عالية الصوت أمكن تطويقها بصعوبة.
بعد نحو شهرين، جرت في العريش مذبحة بحق أقباط مصريين، وأُجبر من أفلتوا منها على التهجير القسري خارج شمال سيناء موطنهم الأصلي.
يقال عادة إنه لم يحدث تهجير قسري، وأنه كان إجراء احترازياً؛ لمنع أية مذابح أخرى. هذا صحيح بظاهر الحوادث والتداعيات؛ لكنه من ناحية أخرى أعطى رسالة سلبية عن تفلت الأوضاع الأمنية خارج السيطرة، كما أن التهجير بذاته يضرب في عمق الأمن القومي، فما يحفظ أمن سيناء هو تمركز أهلها لا إخلاؤها. 
وهكذا ارتفعت من جديد في أوساط الأقباط تساؤلات قلقة نال رذاذها البابا، وكان من بينها: لماذا لا يحتج بصوت عال..؟
ثم جاءت الضربة المزدوجة لكنسيتي «مار جرجس» بطنطا و«المرقسية» بالإسكندرية في يوم واحد 9 إبريل/نيسان 2017؛ لتزداد حيرة الأسئلة، وترتفع مستويات القلق.
ما يلفت الانتباه؛ هو أن تلك الضربة المزدوجة تأخرت أربعة أشهر عن موعدها المتوقع في أعياد الميلاد؛ لكنها طلبت الترويع نفسه، والرسالة نفسها في مناسبة دينية أخرى «أحد الشعانين»؛ حيث يحتشد الأقباط داخل كنائسهم.
ليس بالضرورة أن تُستهدف الكنائس في أعياد الميلاد؛ لكن تظل هناك ضربة ما متوقعة الآن، أو في أي وقت لاحق.
في مصر، كما في دول أخرى مستهدفة في أعياد الميلاد بأعمال إرهابية لكنائس، أو تجمعات عامة، أعلنت السلطات الأمنية حالة الاستنفار القصوى.
وقد نجحت في إحباط هجوم إرهابي على كنيسة «مار مينا» بحلوان، وقتل أحد منفذيه وضبط آخر بحوزته قنبلة بعد تبادل إطلاق نار سقط فيها شهداء ومصابون بعضهم رجال أمن، قبل يومين من الاحتفالات المنتظرة، وهذه المحاولة منذرة وتدعو إلى التنبه لما قد يحدث في الأيام المقبلة. لا يوجد أمن مطلق، والسؤال الرئيسي عن مدى قدرة الأجهزة الأمنية على توجيه ضربات استباقية تمنع العمل الإرهابي قبل وقوعه. ذلك يطرح ضرورة رفع كفاءة الأداء الأمني وإصلاحه وفق القيم الدستورية حتى يكون في خدمة الشعب لا سيداً عليه.
من ضرورات كسب الحرب مع الإرهاب؛ أن يكون الرأي العام حاضناً لأمنه لا متململاً منه. إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقائق، فلا يمكن كسب تلك الحرب دون استراتيجية واضحة، تعمل على تصويب المسارات المُختلة في السياسة والإعلام والثقافة والخطاب الديني. يقال عادة إن الحرب مع الإرهاب تخاض بكل مقدرات الدولة، ويصعب الادعاء بأن شيئاً من ذلك يحدث الآن. رغم أهمية دور الأمن فإنه لا يقدر وحده على حسمها، ونزيف الدم سوف يتواصل من حياة ضباطه وجنوده ومن سلامة المواطن العادي. القضية الأكثر مركزية رفع شأن دولة القانون، وتفعيل الالتزام الدستوري؛ بإنشاء مفوضية منع التمييز.
السؤال هنا: ما الذي يحول حتى الآن دون إنشاء تلك المفوضية، التي من بين مهامها رصد أية مخالفات تنتهك حقوق المواطنة؟
يستحيل أن تكون هناك أية استراتيجية كفؤة وفاعلة في الحرب مع الإرهاب؛ دون بناء دولة دستورية حديثة، ترفض كافة أشكال التمييز، وتتبنى ثقافة العيش المشترك؛ بحيث لا تسمح بإهانة عقائد الآخرين واستباحة دمائهم.
في حروب الإرهاب الجميع مستهدف غير أن ذلك المعنى يستدعي مقاربات أخرى غير ما هو جار الآن.
ثمة صمت غير مبرر وغير مقبول على تصريحات متجاوزة بأية حقوق للمواطنة ودعوات لعدم تهنئة المسيحيين بأعيادهم. مثل تلك الأجواء السلبية تستبيح عملياً إهدار الدماء كالقتل على الهوية الدينية، كما يحدث من وقت لآخر في جرائم فردية؛ لكنها دالة على ثقافة تناهض سماحة الدين الإسلامي.
ليست دور العبادة المسيحية وحدها محل الاستهداف، فقد جرت مقتلة جماعية لمصلين مسلمين في مسجد «الروضة» بالقرب من بئر العبد من ذات الجماعة الإرهابية.
لم تكن مصادفة أن يشهد بئر العبد حوادث إرهابية أخرى أسقطت شهداء من الضباط والجنود قبل حلول العام الجديد بثلاثة أيام. الرسالة منذرة بعمليات أخرى في الداخل المصري تطلب الدم المسيحي، كما المسلم.
من يحمي المسيحيين العرب؟
السؤال بنصه طرحه الأكاديمي والمؤرخ الموسيقي الدكتور «فيكتور سحاب» قبل سنوات طويلة، وكانت إجابته: من شركاء الوطن المسلمين لا من قوة خارجية. 
نفس الإجابة اعتمدها، الأسبوع الماضي، البابا «تواضروس الثاني» في تصريحات أطلقها. كيف؟.. هذا هو التحدي الرئيسي.
لا إجابة واحدة قادرة على الإقناع والإلهام غير الدولة الدستورية، التي تعلي من شأن القانون، وتضمن حقوق المواطنة بالفعل لا بالكلام.