رضوان السيد

بحكم دراستي في ألمانيا الاتحادية في سبعينيات القرن الماضي، ومتابعتي للسياسات والتطورات فيها، دعاني «بيت المستقبل» الذي أنشأه الرئيس أمين الجميل للتعليق على محاضرة للبروفسور فوغل، رئيس مؤسسة «أديناور»، عن مستقبل الأحزاب المسيحية الديموقراطية في أوروبا، والواقع أنه ما بقي من تلك الأحزاب قائماً وقوياً غير «الحزب الديموقراطي المسيحي» في ألمانيا، والذي تتزعمه المستشارة ميركل، وهي تترشح باسمه في الانتخابات القادمة لرئاسة الحكومة مجدداً.

ظهرت الأحزاب المسيحية الديموقراطية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت موجودةً من قبل، لكنها كانت أقرب للمحافظة مثل حزب المحافظين البريطاني، أمّا علاقتها بالمثال الديني فكانت ضعيفة. وكما هو معروف، فإنّ ألمانيا منقسمةٌ اليوم بين البروتستانت والكاثوليك بنسبة شبه متساوية. وتغلب البروتستانتية في الشرق، بينما تغلب الكاثوليكية في الوسط والجنوب. وعندما ظهرت تلك الأحزاب في ألمانيا وإيطاليا والنمسا، فإنّ الغلبة في عضويتها كانت للكاثوليك. بينما كانت للإنجيليين الغلبة في الحزب الديموقراطي الاشتراكي (SPD). وما عاد الحال كذلك اليوم، فرئيسة الـCDU اليوم هي ميركل، وهي ابنة قس بروتستانتي من شرق ألمانيا. وفي حين أنّ الحزب الديموقراطي المسيحي الذي كان قوياً بإيطاليا حتى سبعينيات القرن الماضي، قد انهار تحت وطأة الفساد، وصعود الشيوعيين والاشتراكيين، فإنّ الحزب الديموقراطي المسيحي الألماني حافظ على قوته، وفاز بالانتخابات عشرات المرات، وصارت له سُمعة حسنة منذ ترأسه كونراد أديناور رئيس بلدية كولن (كولونيا) الأسبق، فأعاد إعمار ألمانيا، وأسَّس مع ديغول السوق الأوروبية المشتركة، ثم كانت للحزب ميزة استعادة وحدة ألمانيا في عهد المستشار كول خلال انهيار الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية مطلع التسعينيات.

كل الأحزاب السياسية في غرب أوروبا وشرقها تُعاني من صعود اليمين وحركات الخضر واليسار غير الحزبي وحركات الشباب متقلبة الميول. والمُعاناة تشمل الأحزاب المسيحية الديموقراطية والأحزاب المحافظة، كما تنال من الأحزاب الاشتراكية والشيوعية. بيد أنّ الضغوط على الأحزاب الكبيرة من اليسار والمحافظة مختلفة الاتجاه، فالاشتراكيون يضغطُ عليهم متطرفو حركات الشباب المعادية للعولمة وللاتحاد الأوروبي. والمحافظون المسيحيون وغير المسيحيين تضغط عليهم الحركات اليمينية المتطرفة. وما وصل اليمين المتطرف إلى السلطة بعد في أيٍّ من بلدان غرب أوروبا، لكنهم كادوا يصلون في النمسا والدانمارك وهولندا والسويد، وهم موجودون بقوة في الحكومة الهنغارية.

وفي السنوات العشر الأخيرة، فإنّ مسألة الهجرة من جهة، والاندماج من جهة أُخرى، صارت حاسمةً في جذب الناخبين في كل بلدان أوروبا تقريباً. ويظهر ذلك على سبيل المثال في بريطانيا، حيث كانت هذه المسألة بين أسباب الخروج من الاتحاد الأوروبي. وعندما تصاعدت موجات الهجرة السورية في الأعوام الثلاثة الأخيرة، فإنّ معظم دول الاتحاد الأوروبي تمردت على الممارسة الأوروبية التقليدية في قبول المهاجرين، وما بقي غير ألمانيا وإيطاليا. وما كانت إيطاليا جذابة للهجرة في العقدين الأخيرين، بل إنّ معظم المهاجرين من البلدان الآسيوية والأفريقية استماتوا في الوصول إلى ألمانيا. وانفردت المستشارة ميركل في قبول أكثر من مليون منهم في عامي 2015 و2016. وزاد ذلك من ضغوط اليمين وحركات العداء للمهاجرين عليها، وأثّر في شعبيتها، وبخاصة بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة في كل دول القارة. وحتى ألمانيا التي يُعتبر اقتصادُها أكبر الاقتصادات الأوروبية، تضاءلت نسبة النمو فيها. ليس بسبب المهاجرين، بل بسبب أوضاع الأسواق العالمية، والاستنزاف الذي يحصل للاقتصاد الألماني بجهود الحكومة في الحفاظ على الاتحاد الأوروبي.

المعلومات ما عادت مهمةً في الاتجاهات الشعبية الفائرة، بل المهمُّ الانطباع العام، وهو ضد المهاجرين وبخاصة المسلمين منهم الذين يثير اليمين الرعب منهم والتوجس بسبب الأحداث الإرهابية.

تُواجه الأحزاب السياسية العريقةُ ضغوطاً شعبية كبيرة من اليمين المتشدد، والذي كان في السابق أداة احتجاج واعتراض لا أكثر. أما في السنوات الأخيرة فصار قوةً سياسيةً حاضرة. ومن غير المرجح في ألمانيا أن يكسب اليمين أصوات الأكثرية، لكنه سيدخل البرلمانات والإدارات، وستضطر ميركل لتشكيل حكومة من الـCDU والـSPD كما هو الحال اليوم، لكن الخمول الذي نال من الأحزاب سيظل تهديداً مستمراً يسبب الاضطراب، فهي حركات تستطيع الاحتجاج لكنها لا تستطيع الحكم.