ملحة عبدالله

لو تأملنا الآية الكريمة (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى لم يهبط واحدا قبل الثاني ولم يسبقها آدم ولم تسبقه في عمارة الأرض. ولعلنا نتخذ من حكمة الله عز وجل في رسائله للبشر أنه لا تُعمر الأرض إلا بهذين القطبين وأنهما هبطا في آن واحد وبدون تمييز.

أنا لست (فيمينية) أو من ربات التمييز وعدمه، فأنا أمقت هذا الفكر الذي ليس منا وأتى برسائل تسري من تحت الماء لغاية حقوقية نعلم كنهها. لأن هذا الفكر الوافد والمستحدث ما هو إلا لبث الفكر التميزي لشغل الناس، أو قل لشحن النفوس أو قل ما تشاء.

حقيقة الأمر أننا -كعرب ثم كمسلمين- من أرسى قواعد احترام المرأة، ومن أعطاها تلك النظرة الشامخة والسامقة في يومٍ كانت المرأة في أوروبا تهان وتحتقر وتوضع في أدنى درجات السلم الاجتماعي، كما في تحليل الأدب إبان القرن الرابع والخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر الميلادي، والتي كان الحال قد يصل إلى حرق النساء بحجة إنهن ساحرات، لأنهم لمحوا في سلوكهن شيئا من الفكر والتحرر، ومحاولة الانقلاب على واقعهن في ذلك العصر، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يحرق معها كل رجل يدافع عنها وعن فكرها، كما أُحرق وأُعدم أغلب العلماء والمخترعين وما إلى ذلك، ودعك من التاريخ فالتاريخ لا ينصف.

قيل إن صفقة باب نورا هزت جدران أوروبا كلها آنذاك، وهذه مقولة شهيرة عن ذلك العمل المسرحي الذي كتبه الكاتب النرويجي (هنرك ابسن) بيت الدمية (A Doll's House) عام 1879، ومن الاسم نفسه نستشف هذه الدلالة الكبيرة لبيت نورا بطلة المسرحية التي كان زوجها (تروفالد هلمر) يعاملها كدمية يلهو بها، وحين تتكشف أشياء كثيرة عبر الحدث، نجد أنه يستنكر عليها وجودها كإنسانة كريمة وأم لأطفاله، فتخرج نورا صافعة الباب خلفها فاهتزت له جدران أوروبا وكانت بداية تحقق النساء في ذلك الوقت.

لماذا نسرد ذلك ونستدعيه؟ لأن العرب في هذا التاريخ بالذات كانوا يضعون المرأة في أعلى درجات السلم الاجتماعي فهي أم القبيلة، وهي التي تنتسب لها القبيلة فتسمى باسمها، وهي التي يعتزي بها الرجل فيقول (أنا أخو فلانة) في وقت الشدة، وهي الشاعرة والفنانة وصاحبة الرأي الذي يرجع له كبار القبيلة إن احتاج الأمر إلى ذلك!

وكلمة غرب، وعرب، إذا نظرنا لهما ككلمتين ذواتي مفهومين لكل منهما تميزه ودلالته، بالرغم من تشابههما في الرسم فلا يفرق بينهما سوى تلك النقطة على حرف الغين، وأنا من وجهة نظري أن تلك العلامة الفارقة بين الرسمين، والموضوعة على هذا الحرف هي المرأة!

فالمرأة العربية لها تاريخ، ولها أمجاد، ولها سحب تركض في فضاء بلادها عبر العصور، وعلينا أن نفقه ذلك؛ بل ونستعيده، كما أن علينا أن نعتز به وتذكو رائحته العطرة في أنوفنا وفي أنوف العالم كله. فالمرأة يا سادة لا توزن بالماركات العالمية ومساحيق التجميل!

قد يخطر ببال القارئ الكريم قول آخر بأن كان هناك سبي وقينات وما إلى ذلك في تاريخنا العربي، ولكنى سأعاجلك بقول الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، في كتابه الرحيق المختوم وهو كتاب لا يخفى على أحد قدره فيقول: "كانت علاقة الرجل مع أهله في الأشراف على درجة كبيرة من الرقي والتقدم، وكان لها من حرية الإرادة، ونفاذ القول والقسط الأوفر، وكانت محترمة مصونة تسل دونها السيوف، وتراق الدماء، وكان الرجل إذا أراد أن يمتدح بما له في نظر العرب المقام السامي من الكرم والشجاعة، لم يكن يخاطب في أكثر أوقاته إلا المرأة، وربما كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال"، وذلك لأن هناك نساء عظميات وشريفات وقائدات، فلا يعمم القول بأن حال المرأة العربية كان كهذا شكل. وقد أفردت بابا كاملا في موسوعة "عبقرية الإنسان" لها حينما هالني هذا الشموخ وهذا السموق لها في ذلك التاريخ!

هذا هو تاريخنا وهكذا كانت أمهاتنا! فمن أين جاءت لنا هذه النظرة الدونية للمرأة في وقتنا المعاصر، حيث إنها أصبحت جسدا يثير الفتنة فقط لا غير؟!

هناك عنصران مهمان في حال تردي وضع المرأة العربية الآن وصورتها التي هي عليها وهما: أولا: ذلك الخطاب الديني المتطرف الذي واجه صدى في قلب ابن القبيلة فأذكى ناره، وتمسك به لهوى في نفسه.. الأمر الثاني: هي نفسها من وضع نفسها في هذا المقام ورضيت به، وهي سلالة الخنساء وبلقيس وآسيا وأمهات المسلمين رضوان الله عليهن، وأم القبيلة التي ينتسب إليها الرجال، هي وبيدها فقط من أرادت أن تضع نفسها مثيرة للنظر، وهي من تتلذذ باستكانتها تحت الضلع الأخير، هي من ربى بداخلها عنصر الخوف والقلق وعدم الثقة، هي التي لم تعرف من هي وما هو تاريخها لتحافظ عليه، هي من تعرض نفسها سلعة على شاشات السينما والتلفاز تتزين لمن يدفع أكثر في مادة إعلانية! ثم يصحن ويطالبن ويقمن يوما للمرأة بعدما مال حالها.

العالم كله يقيم يوما للمرأة هذه الأيام لأنه لم يكن حجر الأساس في علو شأنها، وكان له تاريخ أسود في حقها أراد أن يغسله، أما نحن فعلينا استرداد تاريخنا الضارب في عمق ما قبل التاريخ، وعلى المرأة العربية أن تعلم تاريخا قد سبق اليوم العالمي بكثير، وعلى الرجل أن يعلم أن ما يذكيه الخطاب المتطرف هو المعول الهادم والمتنافي مع عروبته، ومع قيمه، وعلينا نحن الاحتفال بأنفسنا كل يوم، إذا ما مسحنا تلك الرتوش.