يوسف مكي

الكون لا يقبل الفراغ، وسيادة نمط التعددية القطبية في العلاقات الدولية، كانت فترة ترصين للعلاقات بين الدول، والمؤسسات الناظمة

مرة أخرى حضر موضوع الأيديولوجيا بقوة في مهرجان الجنادرية في دورته الحادية والثلاثين. وكان لي شرف المشاركة في الندوة التي تناولت دور الأيديولوجيا في المشهد السياسي والفكري بالوطن العربي، بمشاركة نخبة من المفكرين العرب الذين أثروا الندوة بأوراقهم ومداخلاتهم العميقة.
تناولت الورقة التي قدمتها الأيديولوجيا في علاقتها بالدورة التاريخية، فتاريخيا، هناك صراع فكري مستمر، بين رؤيتين: رؤية منفتحة وأخرى منغلقة. 
وقد كان ذلك هو الواقع مع المذاهب السياسية الوضعية، كما هو أيضا مع العقائد والمذاهب الدينية. والأفكار هي في النهاية استجابة لواقع موضوعي، ترتقي في لحظات النهوض، وتتراجع في لحظات الضعف.
كانت حركة اليقظة العربية، قد تأثرت بشعارات الحرية والاستقلال، وطمحت في الخلاص من السيطرة العثمانية، مؤسسة لهوية عربية معاصرة، تتسق مع الأفكار الحديثة التي ارتبطت بالتحولات السياسية الكبرى، في القارة الأوروبية. 
وحين طعنت النخب العربية في حلمها بتشكيل دولة عربية مشرقية، بعد وضع اتفاقية سايكس- بيكو 1916 قيد التنفيذ، وبداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، تنفيذا لوعد بلفور، 1917، بدت الأبواب مفتوحة لتيار الإسلام السياسي، ليحل محل النخب التي قادت حركة اليقظة العربية، فكان تأسيس حركة الإخوان المسلمين، بمدينة الإسماعيلية، بعد عقد واحد من وعد بلفور، على يد الشيخ حسن البنا، تعبيرا عن خيبات مشروع اليقظة، وفشل محاولات الانعتاق عن السيطرة الأجنبية، والعجز عن بناء دولة عربية عصرية.
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الانقلابات العسكرية، في عدد من البلدان العربية، احتجاجا على واقع مأزوم، وكردة فعل على نكبة فلسطين. 
ونتج عن الانقلابات العسكرية المتتالية في الوطن العربي، تجريف للحركة السياسية، واقتصر العمل السياسي على الأحزاب الحاكمة. وفي مثل هذه الظروف، كانت الجهة الأقدر، خارج السلطة على احتكار العمل السياسي، هي مجموعات الإسلام السياسي التي استغلت مفهوم الدعوة لتوسع من دائرة حركتها، انطلاقا من أرض الكنانة.
وليس من شك في أن ضعف التشكيلات الاجتماعية العربية، والفشل في مواجهة المشروع الصهيوني، قد هيئا لبروز جديد لظاهرة الإسلام السياسي التي جرى قمعها في الأربعينات والخمسينات من القرن المنصرم. فكان عقد السبعينات مرحلة بروز واسع لحركات الإسلام السياسي، متلفعة بـ"الجهاد"، هذه المرة، وناقلة فكرتها بشكل صريح من الدعوة بالتي هي أحسن، إلى عسكرة صفوفها، وفرض أفكارها، بالقسر وقوة السلاح.
لماذا أخذت دورة الإسلام السياسي، حقبة أطول بكثير مما توقع لها الكثير، مع كل الضربات التي وجهت لها، منذ السبعينات من القرن الماضي؟! تفسير ذلك يكمن في قراءة التاريخ المعاصر للمنطقة العربية وجوارها الإقليمي. 
ففي نهاية السبعينات من القرن الماضي، حدثت الثورة الإيرانية، منطلقة من أيديولوجيا دينية ومذهبية. مع بداية حقبة الثمانينات نزلت القوات الروسية في العاصمة الأفغانية كابول، ليبدأ التدخل السوفييتي العسكري والمعلن في هذا البلد، وكان من نتائج ذلك بروز مقاومة أفغانية رفعت شعار الجهاد، وبدت موئلا للجماعات الإسلامية من كل مكان، وحظيت في حينه بدعم عربي ودولي، واعتبر أفرادها مجاهدون أبطالا في وجه الشيوعية، يستقبل قادتهم الرئيس الأميركي، رونالد ريجان في البيت الأبيض.
وكانت نهاية العقد، قد شهدت سقوط حائط برلين وبداية العد التنازلي لسقوط الاتحاد السوفييتي، وكان سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، إعلانا واضحا بانفراط النظام الدولي الذي دشن بعد الحرب الكونية الثانية، والذي استند على ثنائية قطبية، وبداية مرحلة الأحادية القطبية التي تفردت بها الولايات المتحدة الأميركية بالتربع على عرش الهيمنة الدولية.
وكانت فترة نشاز في التاريخ البشري، إذ لم يعرف في التاريخ الإنساني المكتوب، أن تفردت قوة واحدة، مهما تكن قوتها العسكرية والسياسية بصناعة القرار الأممي. 
ولأنها فترة نشاز، لم يكن لها أن تستمر طويلا، فكانت حوادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في نيويورك والعاصمة الأميركية واشنطن، واحتلال أفغانستان والعراق، بداية العد التنازلي، لنهاية الأحادية القطبية التي اقتصرت دورتها على ما يزيد عن عقد من الزمن بقليل. وليواصل التاريخ الإنساني دوراته المتعاقبة. 
كانت المحطة الأولى، في تحدي الهيمنة الأميركية على العالم قد جاءت من الحليف الفرنسي، والعضو في حلف الناتو، حين هددت فرنسا باستخدام حق النقض في مواجهة أي قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي، في مطلع عام 2003، يجيز للولايات المتحدة احتلال العراق. 
ثم بدأت الأحداث تتداعى، مقاومة عراقية تتحدى الاحتلال الأميركي للعراق، وحركات جهادية في أفغانستان، تتصدى لغزو أميركا، وروسيا تبرز من تحت الركام، بقيادة فلاديمير بوتين، لتبدأ صولاتها في الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي، ولتعيد بناء ترسانتها العسكرية، وصعود كاسح للاقتصاد الصيني، وتأسيس منظومات إقليمية ودولية واقتصادية جديدة، في أميركا الجنوبية، لعل الأبرز بينها منظومة البريكس، وشنغهاي. 
ثم جاء الربيع العربي خريفا قاسيا على المنطقة بأسرها. تغيرت أنظمة سياسية، من خلال الحركات الاحتجاحية، وصودرت كيانات. وكانت أيديولوجيا الإسلام السياسي، حاضرة في كل المواقع والميادين، وثكنات السلاح. بدت المنطقة تسير ركضا نحو المجهول، وكانت الكلف عالية جدا، وقائمة المصروفات غزيرة، في العراق وسورية وليبيا واليمن. وأوضاع المنطقة بأسرها، باتت أسيرة الإرهاب والتطرف.
كيف نضع هذه الأحداث، في سياق التحولات الإقليمية والدولية؟!
الجواب ببساطة، أن الكون لا يقبل الفراغ. وسيادة نمط التعددية القطبية في العلاقات الدولية، كانت فترة ترصين للعلاقات بين الدول، والمؤسسات الناظمة. كما كانت فترة الهيمنة الأحادية، فترة تجبّر وغطرسة، هيأت مقدماتها لهذا الانفلات والفوضى التي تعم منطقتنا الآن.