نديم قطيش

رويًدا يعود لبنان إلى دوره. ليس الدور الذي يريده له أبناؤه أو غالبيتهم. دور النهضة السياحية والخدماتية المصرفية والطبية والتعليمية ودور الوفر الاقتصادي.

يعود لبنان إلى دور «الباروميتر»، لميزان قياس التوترات في المنطقة وقراءة اتجاهات الريح واحتمالاتها. على السطح ثمة تسوية سياسية محلية بدأت من انتخاب الجنرال ميشال عون رئيًسا، وتلاها ما تلاها من تكليف سعد الحريري برئاسة الحكومة، ثم تشكيلها السريع نسبًيا ونيلها الثقة، وانطلاق ورشة قانون الانتخابات النيابية، وبحث الموازنة المعلقة منذ عشر سنوات، وغيرها كثير من مشاريع البنية التحتية الحيوية.

وبدأت العودة العربية والخليجية تحديًدا إلى الوطن الجالس جلوس الأيتام على موائد اللئام! هذا على السطح! تحته يشعر زائر بيروت بغليان ما. بقلق يفيض من النفوس على جوانب الطرق وفي أحاديث المقاهي وفي عيون الناس. ثمة ميل لعدم تصديق الأخبار، السياسي منها والأمني. يحدثونك مثلاً عن انهيار الثقة بالحكومة، بأجهزتها ومؤسساتها. الأهم أنه في جانب آخر منه هو ناتج التنافس السياسي ليس عشرات الأدلة على أن عملية مقهى الكوستا الانتحارية التي أحبطت مجرد مسرحية. في جانب منه هذا دليل على السلطة، بل على الدولة وبها وباستخدام مؤسساتها وأجهزتها.

كم هائل من المبالغات. أعداد لا تحصى من الانتصارات التي ُيَّدعى تحقيقها كل يوم، كأن كل يوم يمر على اللبناني يَؤرخ به له ما قبله ولما بعده!

القلق الرئيسي مثاره أن لبنان عاد إلى دوره. عاد باروميتًرا. مراقبة تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب وإدارته حول إيران لها صدى كبير في لبنان. فما يبدو أن الرجل يحضر له ليس أقل من القرار «1559» الأميركي بحق إيران. من أكثر من اللبنانيين يعرف مفاعيل القرار الأممي 1559، الذي نادى بانسحاب سوريا من لبنان وإجراء انتخابات رئاسية، في مواجهة قرار سوريا
الأسد التمديد للرئيس الأسبق إميل لحود ونزع سلاح «حزب الله».

صدر قرار إعدام الدور السوري - الإيراني في لبنان فصدر في مقابله القرار بإعدام رفيق الحريري. كأننا اليوم بإزاء مواجهة لا تقل مفاعيلها عما سبقها قبل ثلاثة عشر عاًما.

القرار الأميركي حاسم بإعدام الدور الإقليمي العسكري والأمني لإيران. قرار بانسحاب إيران من المشرق العربي والخليج، كثورة وتنظيم علاقاتها من الإقليمين المذكورين كدولة. قرار بسحب سلاح «حزب الله» الإقليمي، أكان لبنانًيا أم عراقًيا أم أفغانًيا أم لأي دولة انتمى. وقرار بتثبيت الدول حيث توجد دول، وإعادة بنائها بالحدود الدنيا للشرعية حيث يمكن.

قرار بالمواجهة مع فكرة الثورة لحماية فكرة الدولة.

من مفاعيل هذا القرار ما كشفه مسؤولون أميركيون أن إدارة ترمب تدرس اقتراًحا لإدراج «الحرس الثوري» على لائحة التنظيمات الإرهابية. اللافت أن المقترح يضم أيًضا إدراج تنظيم جماعة «الإخوان المسلمين». أي قرار واحد للإخوان الشيعة وللإخوان السنة بما هما جذر التنظيمات الثورية الإسلامية المسلحة العابرة للحدود.

تخيلوا أن هذا القرار يتزامن مع التحضير لانتخابات رئاسية في إيران في مايو (أيار) المقبل في واحدة من أدق اللحظات السياسية منذ عام 1979، وفي ذروة الصراع الاجتماعي والسياسي بين «معسكر الصواريخ» و«معسكر الاقتصاد» حول هوية الدولة والمجتمع في إيران! فما كشفته جنازة الشيخ هاشمي رفسنجاني أن الثورة الخضراء التي أجهضها القمع المرعب لنظام الملالي، والإهمال المنظم لها من قبل المجتمع الدولي الذي كان يتودد لخامنئي ونظامه، هذه الثورة قائمة وحية... وخضراء!

لنبق في لبنان!
العودة العربية بقيادة السعودية إلى لبنان وكثافة الحضور السعودي السياسي ولاحًقا الشعبي تلتقي مع هذه اللحظة الدولية تجاه إيران. مسارعة قوى التحالف بقيادة السعودية في اليمن لتجاوز الخطوط الحمر العسكرية المتفاهم عليها مع إدارة أوباما، تلتقي أيًضا مع هذه اللحظة الدولية تجاه إيران. من مثالات ذلك تحرير مدينة المخا، وهي واحدة من أقوى أوراق إيران لتهديد مضيق باب المندب، ولإبطاء الحركة العسكرية لقوات الشرعية والتحالف تجاه محافظتي تعز والحديدة.

يتابع اللبنانيون هذه الأخبار، وتعود بهم الذاكرة إلى السنوات الـ13 العجاف. تحبل الأزمة في العالم وتلد عندنا، كما يقولون.
كيف سترد إيران وأين؟ كيف ستواجه وبمن؟ بدماء من؟ بأرزاق من؟ بمستقبل من؟ هذه الأسئلة كبيرة في بيروت، التي للأسف عادت إلى دورها أو تكاد. عادت مختبًرا للصراعات أو تكاد.

حين قال محمد جواد ظريف إن ثمة حواًرا إيرانًيا سعودًيا جرى حول لبنان لم يكن قوله دقيًقا. لكنه إشارة إلى أن ما هو ملتقى هو أيًضا نقطة فكاك. فكرت في جواد ظريف وأنا أستمتع بمراقبة تفاصيل لوحة أيمن بعلبكي، التي تجسد بمهابة «واحتفالية» كبيرة تفجير مقر المارينز في بيروت 1983 في غاليري صالح بركات. تأريخ فني باذخ للحظة ولادة الهيمنة الإيرانية في المشرق.

تنطلق بك الطائرة من بيروت إلى دبي، تنظر إلى هذه المدينة الساحرة إلى الجبال البيضاء المكللة بثلوج موسم خصب، وتفكر في بلاد معلقة بين لحظتين: تلك التي أرخها بعلبكي والقرار «1559» الأميركي بحق إيران.