إياد أبو شقرا

يكفي الاستماع إلى تصريحات ستيفان دي ميستورا المبعوث الأممي لسوريا، ومتابعة قتال الفصائل «الإسلامية» في ريف محافظات إدلب وحماه وحلب، لاكتشاف حجم المؤامرة الفظيعة التي يبدو أنها نجحت في إخماد الثورة الشعبية السورية قبل أن تكمل 6 سنوات من عمرها.


يكفي متابعة تنامي «المنصّات» – ما أقبح هذه الكلمة وأجوفها – وهي تنمو هنا وهناك كالفطر السام، إن لم يكن في عواصم مُهادنة ومؤيدة علنًا لنظام بشار الأسد وملالي إيران، ففي قاعدة حميميم العسكرية الروسية بمحافظة اللاذقية التي منها يقصف الطيران الحربي الروسي مدن سوريا وأريافها، وعلى رأسها «درّتها» الشهباء... حلب.
يكفي تذكّر الشخصيات العاقلة الرصينة التي كانت تتكلم باسم الثورة، قبل بضع سنوات... أي قبل أن تبعدها عن المشهد اللحى الكثّة، والولاءات التبعية الارتزاقية، والشعارات الطائفية الإلغائية، ومزايدات الانتهازيين ومشتهي السلطة والتسلط.
يكفي رؤية تآمر مجتمع دولي لم يعدم وسيلة لاستغلال كل ثغرة في الثقافة السياسية لشعب مقهور عانى من الديكتاتورية و«الدولة الأمنية» لأكثر من نصف قرن. بل يكفي النظر إلى «صداقات» تخديرية كاذبة دأبت على لعب «لعبة الوقت» لمساعدة نظام قاتل على الصمود مقابل إحباط معارضيه وتفتيتهم.
واليوم، في سباق مع الزمن، يحاول ما تبقى من معارضة حقيقية تجرّع مرارة كأس «توسيع» صفوف فريق التفاوض ليشمل «معارضين» مزعومين معظمهم لا علاقة لهم بالمعارضة. وللعلم، فإن بعض هؤلاء اختارتهم روسيا، الداعم العسكري المباشر لنظام الأسد، للمشاركة في مفاوضات من المنطقي أن تكون بعبثية سابقاتها، تحت الرعاية الأممية نفسها وإشراف المبعوث الأممي نفسه. وهذا، بعد تبدّل «الأولويات» الدولية من تغيير النظام وإعادة بناء سوريا ديمقراطية، إلى محاربة إرهاب ساعد النظام وداعموه في تصنيعه وترويجه... وأسهمت العواصم الكبرى بتوسّعه عبر رفضها بعناد مطالب إنشاء «المناطق الآمنة» و«مناطق حظر الطيران» على امتداد أكثر من أربع سنوات.
ثم إن مصير الشعب السوري، المدفوع دفعًا منذ نحو ست سنوات إلى الموت أو التهجير أو اليأس، أضحى مسألة استنسابية ترضخ لحسابات الخرائط المعدة للشرق الأوسط، في ضوء الأطماع وتبادل المصالح. وحتى أولئك الذين يتوهمّون اليوم أن اتجاه الرياح الدولية يهب باتجاه مصالحهم الدينية والطائفية والعرقية قد يكتشفون لاحقًا أنهم ذهبوا ضحية توافقات أكبر منهم، كحالات كثيرة عرفتها المنطقة في تاريخها.
أذكر الآن، في هذا السياق، مرحلة إعداد القوى الغربية للإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين. وبالذات، تعود بي الذاكرة إلى الانقسامات العميقة التي كانت سمة للمعارضة العراقية، ومنها ما تجلى في «اجتماع لندن»، الذي انتهى بـ«بيان لندن» المكوّن من 22 نقطة في ديسمبر (كانون الأول) 2002.
ذلك البيان - قبل انكشاف النيّات المبيتة وخراب البصرة وغير البصرة - أقر بالتنوّع واحترام المكوّنات الفئوية والحزبية العراقية. غير أن أهم ما فيه، على الرغم من الاختلاف الجذري بين مطامح الموقّعين عليه وأهدافهم الحقيقية، هو أن نية التغيير كانت موجودة في العواصم الغربية - تحديدًا - التي أعلنت الحرب على النظام العراقي يومذاك.
ذلك أن انقسام قوى المعارضة العراقية عام 2002 كان بنفس حدة انقسام المعارضة السورية اليوم، بل ربما أسوأ. لكن في حين أن قوة الدفع الدولية كانت واضحة باتجاه إسقاط صدام حسين، نرى أن كلمة السر في سوريا مختلفة تمامًا. وبينما كانت هناك نيات ومخططات ترى مصلحة للشعب والمنطقة والعالم في تغيير النظام العراقي، فإن مقاربة الوضع في سوريا كانت وما زالت مختلفة.
طبعًا، لا يتسع المجال للخوض في كل تفاصيل لماذا ما كان «حلالاً» يبرّر إسقاط نظام صدام حسين بات الآن «حرامًا» لا يجوز اللجوء إليه مع نظام آل الأسد. ولكن يكفي النظر أولاً إلى مصالح اللاعبين الإقليميين المباشرين، وثانيًا إلى الظرفين الإقليمي والدولي في عام 2002 واليوم.
عام 2002 كان هناك تفاهم ضمني - على الأقل – بين إسرائيل وإيران على التخلص من عدو مشترك. وكان النظام العراقي قد أفقد نفسه جزءًا مهمًا من الغطاء العربي بعد غزوه الكويت، ما أوجد هواجس وشكوكًا على مستوى دول الخليج العربية سهّلت استفراده وضربه. أما تركيا فما كانت قد سارت بعد بخطى واثقة في خط الإسلام السياسي الذي ترسّخ اليوم بعد 15 سنة من حكم رجب طيب إردوغان ورفاقه.
ثم إن روسيا – فلاديمير بوتين 2002، المتردّدة الخارجة من ترهّل عهد بوريس يلتسين، كانت غير روسيا – فلاديمير بوتين 2017... التي تغامر وتغزو وتهدد وتتدخل اليوم حتى في انتخابات دول الغرب. وطبعًا أميركا وبريطانيا 2002 كانتا تحت قيادتين قويتين تعرفان ما تريدان، كانتا مختلفتين عنهما اليوم.
خلال السنوات الـ15 الماضية، أيضًا تغيّرت سوريا وتغير العراق وتغيّر العرب.
إيران، بمباركة أميركية معلنة تجسّدت في الاتفاق النووي مع باراك أوباما، باتت تأمر وتنهى في عدد من العواصم العربية التي نسيت أنها عربية على رأسها دمشق بني أمية وبغداد بني العباس. و«الربيع العربي» اقتلع الجذوع اليابسة قبل أن تزهر البراعم الواعدة. وتركيا الحالمة بأمجاد تجمع نقيضي «الخلافة» ومصطفى كمال «أتاتورك» أعادها إلى أرض الواقع العداء التاريخي والخذلان الأميركي المستجد. وإسرائيل «الليكود» أراحها الوهن العربي فتفرّغت لإكمال تهويد فلسطين.
على هذا الأساس، كانت الظروف والاعتبارات عام 2002 كافية لتكبيل النظام العراقي السابق بـ«مناطق حظر طيران» و«مناطق آمنة». في حين أن الدور الذي لعبه ويلعبه نظام دمشق منذ خريف 1970 كان مقبولاً – بل ومطلوبًا – إقليميًا ودوليًا.
لقد كان «صندوق بريد» ممتازًا، وقطاعًا منزوع السلاح فعالاً على حدود إسرائيل الشمالية، وفخًا ثمينًا في خدمة القوى الكبرى للراديكالية العربية المغشوشة به أو المراهنة عليه أو المضطرة للصمت على تواطئه عليها والمتاجرة بها.
نظام الأسد، كما اكتشف السوريون أخيرًا كان حاجة للجميع باستثنائهم.
كان ضرورة لمن أبقوا عليه رغم جرائمه، لأن جرائمه تخدم مصالحهم.. .