راغدة درغام

 اصطدمت فورة الرهان الصاخب على صفقة حتمية بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، بالصحوة الى قواعد العلاقات الأميركية– الروسية وواقع المصالح الاستراتيجية التي تتعدى شخصية الرجل في مقعد الرئاسة.

التشدد آتٍ إلى واشنطن وموسكو. وما قد يكون ترامب وبوتين راهنا عليه –كلٌّ لغاية في نفس يعقوب– أُعيد إلى خانة «الألف» ريثما يتم التحضير للخطة «باء»، وذلك في ضوء سلسلة أحداث وتطورات لم تكن في الحسبان، من بينها إقالة مستشار الأمن القومي مايكل فلين بسبب الاشتباه بعلاقات غير اعتيادية تربطه بروسيا، واستبداله بالجنرال المستقل ماكماستر الذي يتقن «اللا» إذا وجد ذلك في غير المصالح العليا للولايات المتحدة. إنما الأمر لم يتوقف عند تلك الإقالة، بل رافقها اندلاع الغضب بين أقطاب الحكم وفي صفوف الرأي العام نتيجة مجموعة أخبار وتحقيقات كشفت علاقات مشبوهة بين عدد من رجال دونالد ترامب وبين رجال فلاديمير بوتين زعمت أنها تدق في عصب صنع الصفقات على حساب المصالح العليا الأميركية. أوكرانيا احتلت موقع الصدارة في مزاعم الصفقات، كونها مفتاح رفع العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا منذ أن قبضت روسيا على القرم الذي لا تنوي التفريط به. إنما العنوان الأعمق في الحديث عن أوكرانيا والقرم والعقوبات هو مصير حلف شمال الأطلسي (ناتو) إذ إن موسكو تؤيدّ تقويض الاثنين معاً وتحجيمهما، لأنها تعتبر مصالحها مهددة بتلاحم حلف الناتو وقوته على حدودها. الأجواء متوترة بين روسيا ودول أوروبية كثيرة، بخاصة بعدما شعرت هذه الدول بالخوف نتيجة الأقوال الانتخابية لدونالد ترامب والأفعال الميدانية لفلاديمير بوتين ومؤشرات إلى إجراءات انقلابية في العلاقة الأميركية– الأوروبية عبر الأطلسي. ذلك الاندفاع الذي ساد مع انتخاب دونالد ترامب لدى الذين أعلنوا انتصار روسيا الاتحادية على الولايات المتحدة في لعبة الأمم.

الجميع اليوم في حال قلق وترقب وشكوك وتأهب للمفاجآت. الدول الآمنة تقفز بين الهرولة إلى الاحتضان والتراجع إلى الحسبان، ومن بينها الدول الخليجية العربية. الدول التي بنت سياساتها على التشكيك واللاثقة تجد نفسها متأرجحة على أوتار العلاقة الأميركية– الروسية تارة واثقة وتارة حذرة حتى من الحليف الروسي، وإيران المثال الأول. ثم هناك بقع النزاعات والنزيف والدموية التي تترقب كيف ستنسحب عليها العلاقات الأميركية– الروسية، وأي ثمن أو هدية آتية إليها نتيجة السياسات المستجدة لواشنطن وموسكو، تصعيدية كانت أو توافقية.

غموض العلاقة بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين أطلق عنان التكهنات والافتراضات، وكذلك غموض عناصر الصفقة التي يرغب فيها الرجلان لصوغ أسس توافقية بين بلديهما. هناك في المعسكرين المواليين للرجلين من يتهم المؤسسة الأميركية التقليدية Establishment، لا سيما في الشقين الاستخباراتي والإعلامي، بأنها عازمة على نسف أسس التفاهم والتقارب بين الرجلين والبلدين وأن غاياتها تخريبية من أجل تأجيج الفجوة بين الشرق والغرب. ثم هناك من يرد بسرعة ويقول إن أسس الحكم الديموقراطي كما وصفه الدستور الأميركي هي المراقبة والمحاسبة Checks and balances ويزعم أن هناك رائحة ابتزاز آتية من الكرملين إلى البيت الأبيض نتيجة صفقات خفية ويطالب دونالد ترامب بالكشف عن جداول ضرائبه التي من شأنها أن تكشف ما إذا كان قد استلف مبالغ كبرى من مصادر روسية.

مثل هذه المقاربات في الأجواء الأميركية– الروسية يفيد بأن المواجهة سيدة الساحة، وبأن حديث العداء بين الشرق والغرب لم ولن ينتهي قريباً.

أثناء عهد الرئيس السابق باراك أوباما، كان هناك نوع من الانفصام بين المواجهة في مسألة أوكرانيا والشراكة في المسألة السورية – أقله في ولايته الثانية.

إن الذي مكّن روسيا من استعادة وزنها في الشرق الأوسط واستعادة ثقتها على الساحة الدولية هو باراك أوباما، فهو قرر القيادة من الخلف هنا، والنأي بالنفس هناك، وهو الذي سمح لروسيا بأن تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها «العجوز» غير القادرة على الحسم أو العزم. إنه الرئيس الأميركي الذي جلس على التجاوزات صامتاً، والذي أوفد وزير خارجيته جون كيري ليلعب الآلة الثانية في الأوركسترا التي قادها نظيره الروسي سيرغي لافروف.

لذلك، من المستهجن إلقاء اللوم على إدارة دونالد ترامب قبل أن تبدأ أعمالها ومن اللاعدل تحميل الرئيس الجديد كامل مسؤولية ما آلت إليه العلاقة الأميركية– الروسية، أو ما حصدته روسيا نتيجة قرارات أميركية. وللتأكيد، فإن روسيا ثارت على الولايات المتحدة والدول الأوروبية في حلف الناتو ليس بسبب سورية، وإنما بسبب استغلالها قرار مجلس الأمن في شأن ليبيا للتدخل العسكري بإهانة واضحة لموسكو عبر تغييبها وتحجيمها واعتبارها هامشية. هذا إلى جانب الاحتضان الأميركي– البريطاني لما سُمّي الربيع العربي فيما كان في الواقع دعماً لصعود «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في صفعة عنيفة لروسيا ومصالحها القومية نظراً إلى تطويقها بخمس جمهوريات إسلامية وإلى جانب مشكلتها الشيشانية.

كل هذا لا يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. فروسيا تمتلك اليوم أدوات التأثير في منطقة الشرق الأوسط أكثر من الولايات المتحدة – أقله موقتاً، وحتى إشعار آخر. باراك أوباما كان قرر التخلي عن العلاقات التقليدية التحالفية مع دول الخليج العربية، واختار إيران أولوية. دونالد ترامب قرر الانقلاب على أوباما في هذا الصدد كما يبدو راغباً في استعادة الوزن الأميركي في الشرق الأوسط.

روسيا واقعة بين الخيارين، فماذا في الأفق أمامها؟ أولاً، هناك العقبة الإيرانية. فإيران حليف ميداني واستراتيجي لروسيا في سورية، وهذا يعيق أي تفاهمات روسية– أميركية استراتيجية. في نهاية المطاف، على موسكو أن تقرر ما إذا كان خيارها هو الولايات المتحدة أو ايران. اليوم موسكو ليست مضطرة للاختيار بين الاثنين. إنما روسيا في حاجة إلى التفكير على المدى البعيد. فهي غير راغبة في البقاء في سورية، والخوض في احتمال التورط والانزلاق إلى مستنقع – لا سيما إذا توترت العلاقة مع الغرب. إيران تريد البقاء في سورية لأن هذا هو مشروعها منذ البداية، ولن تتخلى عنه. إذاً، على موسكو التفكير الجدي في ما ستفعل بعلاقتها مع إيران وهي تصوغ علاقتها مع الولايات المتحدة. عليها التفكير في الأمر من منطلق التحالفات الإقليمية. فالدول الخليجية راغبة في علاقات طبيعية وودية مع موسكو. أما إذا برزت صراعات المحاور، فواضح أين ستكون الدول الخليجية العربية.

في عهد أوباما، كانت إيران موضع تقارب أميركي– روسي– أوروبي عبر المفاوضات النووية والاتفاق النووي. اليوم، أوروبا منقسمة في شأن التدخلات الإيرانية في سورية والعراق واليمن ولبنان. جزء منها يندم على إعطاء إيران الضوء الأخضر للتدخلات الإقليمية ثمناً للاتفاق النووي. والجزء الآخر يتمسك بأولوية الاتفاق النووي مهما كان، وهو جاهز للاستمرار في غض النظر عن التجاوزات الإيرانية الإقليمية. إدارة دونالد ترامب تتوعد، لكنها لم تضع تفاصيل سياساتها نحو إيران بشقي الطموحات النووية والتجاوزات الإقليمية. روسيا تتمسك بتحالفها الاستراتيجي مع إيران، لكنها تدرك تضارب مصالحها القومية مع المشروع الإيراني.

إيران مرتاحة للانحسار في التقدم الموعود الذي قيل أنه آتٍ لينقل العلاقة الأميركية– الروسية إلى عتبة جديدة. فهي واعية إلى أن ذلك التقارب الاستراتيجي بين واشنطن وموسكو سيكون مكلفاً لها بصورة ما. لذلك، طهران تحتفي بالتوتر بين روسيا والغرب، وهي تحفر لنفسها مكانةً لا يُستغنى عنها لدى روسيا بما فيها في لعبة المحاور الروسية– الإيرانية والأميركية– الخليجية، حتى لو كان ذلك في غير المصلحة الروسية.

ماذا تريد روسيا، وماذا ستفعل موسكو إزاء التقلبات الأميركية؟ هوذا السؤال الأكبر، والأجوبة كثيرة. هناك من يؤكد أن الهدف الأول والأكبر والأهم لروسيا هو أن تتخبط الولايات المتحدة كيفما كان وعبر أيٍّ كان. فإذا كان دونالد ترامب هو وسيلة التخبط والتصدع والتفكك واضمحلال الجبروت الأميركي، فإنه أهم استثمار وأهم حليف للكرملين وللمصالح القومية الروسية كما يراها الكرملين بقيادة فلاديمير بوتين اليوم.

هناك من يحتج على هذا الافتراض ويقول إن المصلحة القومية الروسية لا تتوقف عند رد الاعتبار واستعادة الهيبة وتلقين الغرب درس الإهانة، بل إن المصلحة تقتضي التفكير في كيفية الانتقال من المواجهة إلى الشراكة في العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا. وهذا يقتضي أن تفهم روسيا أميركا بصورة مختلفة، تجددية وتطلعية، بدلاً من التعمق في العداء التقليدي. القائلون بهذا الرأي يدعون إلى نقلة نوعية إلى ما من شأنه أن يؤدي إلى تلك الصفقة الكبرى التي هي في المصلحة الروسية اقتصادياً وقيادياً واستراتيجياً.

مبكر جداً استنتاج أن العلاقة بين رئاسة دونالد ترامب ورئاسة فلاديمير بوتين ستسفر عن تصادم ليتم جرّهما إليه أو عن مفاجأة الصفقة الكبرى التي يرغب فيها الرجلان. ما نعرفه هو أن الأمر ليس بتلك السهولة. إذا كان في بال الرجلين اتخاذ القرار بمعزل عن المؤسسات، فإن بوتين قادر جداً، أما ترامب فمقيد جداً. وهذا هو الفارق بين الدولتين.

العالم يحلم بوفاق حكيم وعادل وتطلعي بين الولايات المتحدة وروسيا، بين روسيا والغرب، لعل العشب يرتاح قليلاً بدلاً من أن يموت دوماً على وطأة صراع الفيلة، ولعل النزيف في بؤر النزاع يتراجع.

المشهد اليوم لا يبشر بجديد في ذلك المشهد القديم. لكننا في بداية الطريق والمفاجآت آتية – جميلة كانت أو قبيحة. هذا زمن الترقب والمفاجأة والأعصاب المشدودة والاستفاقة إلى نبضات القلب. فعسى خيراً.