سمير عطا الله

سألني مرة الأكاديمي الفلسطيني الكبير وليد الخالدي «ما هي الخطة التي تضعها قبل أن تبدأ في كتابة مقالتك؟» وفوجئت بالسؤال كما دُهش للجواب: «خطة، أي خطة؟ أضع أمامي ورقة وقلمًا وأبدأ في الكتابة». شعرت وكأن أستاذ هارفارد يريد أن يؤنبني، بل حتى أن يعاقبني، فعاد يسأل من جديد: «Plan، ما فيش Plan؟».


لا حاجة للقول، مَن منّا على خطأ، لكن مؤرخ القدس يتحدث عن مقال دوري، أو مطالعة، أو دراسة، فيما أنا أعني مقالاً يوميًا، يجب أن تبحث عنه في كل الحقول وبعض الشؤون، فإذا وفقك الله بالعنوان والفكرة، فلا يبقى سوى القيام إلى الحصاد.
اليوم، في منتهى المصادفة، أنزلت عن الرف كتابين تبعد مادة أحدهما عن الأخرى بُعد المسافة ما بين قطبي الأرض، أو ما بين «حماس» و«فتح». واحد عنوانه «الليل» بقلم نجم الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر «غي دو موباسان»، الثاني عن سيرة المخترع الأميركي توماس أديسون.
في «الليل» تلك المقطوعة الرائعة، يصف دو موباسان، كيف أُطفئت مصابيح الغاز في باريس دفعة واحدة قبل انبلاج الفجر، فوجد نفسه مغمورًا بظلام دامس وحلكة تامة. ولم يعد يسمع صوتًا أو همسًا. ومدَّ يده إلى جيبه لسحب ساعته، وأصغى إلى صوت عقاربها، لكنه لم يستطع أن يتبين الوقت. وأصغى، فلعل جرس إحدى ساعات المدينة يدق معلنًا الوقت، لكن الصمت بقي كاملاً مثل الحلكة الكاملة.
عندما كنت شابًا، نصحني صديق بأن أقرأ دو موباسان كي أتعلم منه. ولم أتوقف. وأمس، كنت على موعد مع الشاعر عيسى مخلوف، فجاء ومعه نسخة من «الليل». صباح اليوم التالي، عدت إلى قراءتها مسحورًا، كما سُحرتُ في العشرينات من العمر. ثم اكتشفت أن الكتاب الثاني الذي بين يديّ، حكاية أديسون الذي اخترع مصباح الكهرباء. ومن بعدها أضيئت شوارع المدن، وغرف البيوت، وناطحات السحاب، ولم تعد باريس تطفئ مصابيح الغاز قبل الفجر من أجل التوفير.
لم أضع خطة للمقال، برغم إعجابي الأدبي العميق بكاتب ليل باريس، والإعجاب الذي لا يوصف بالمخترع الذي غيَّر حياة العالم أجمع. كلما كبست زرّ الكهرباء في البيت، أقول له شكرًا يا توم. ما أجمل الضوء في الظلام. وأعني ذلك عمليًا ورمزيًا. وفي أي حال، المصادفة أدت إلى هذا المقال، وليست الخطة المسبقة. والخالدي على حق.. .