طيب تيزيني

في الحديث عن الحركة التجديدية المتناضجة دينياً يبرز قصور آفاقها في حال توقفها عن الإسلام، ويبرز هذا القصور حالما نضع يدنا على اللوحة المبتورة من تعدد الألوان خصوصاً، مع غياب اللون المسيحي. فهذا الأخير ليس دخيلاً على منظومة الفكر العربي، وإنما هو شطر متمم وجودياً للون المذكور الذي كان له حضور في الإيجاب والسلب من المنظومة الخاصة بالفكر العربي. فالمسيحية لم تكن أكثر حظاً من الإسلام، خصوصاً في مراحل «الرجل المريض - العثماني»، حتى حين كان للمسيحيين العرب مجموعة من الامتيازات التي برزت في القرن التاسع عشر، حيث دخل الاستعمار الغربي - الأوروبي إلى محور الشرق عموماً. فخزائن الفكر المذكور انفتحت، نسبياً، أمام مسيحيي الشرق. وقد تحقق ذلك بقدر ما توافق مع مصائر الغربيين الهادفين إلى اجتياح الشرق، إن سمحت لهم الظروف الداخلية والخارجية (العالمية)، أي بظروف الخلافة العثمانية، وعلاقاتها بالغرب نفسه.

وقد أخذت في التكون فئات من المستنيرين المثقفين الذين وجدوا قاعدة عملهم وانتماءهم الديني وممارستهم الدينية في صُلب انتمائهم الديني ونشاطهم المحسوب عليهم في مؤسستهم الدينية. من هؤلاء برز في لبنان الأب «غريفوار حداد» مطران بيروت. وسوف نعمم الموقف حيث نرى أن حالة استثنائية تختلف في القرن التاسع عشر، كما مر معنا، راحت تتجلى في الجرأة في طرح أسئلة دينية متعلقة بالواقع الداخلي والخارجي. من ذلك كانت محاولة المطران «حداد» طرح أسئلة على الوضعية الدينية المسيحية عبر واقع الحال الذي أحاط فيه داخلاً وخارجاً، محققاً في ذلك تساؤلات جديدة مثلاً حول مواقع الأقليات الدينية، كالأقلية المسيحية في العالم العربي. وهذا ما أوصله إلى التشابك مع مسائل الدين والوطن والتجديد. واتسع ذلك على أيدي رعيل من المسيحيين في المنطقة العربية بمشاكلها المتعددة الدينية والاجتماعية والسياسية التاريخية.

وقد برزت في سياق ذلك أسماء مهمة شاركت في حل مشكلات مجتمعاتها، مثل الاستقلال والتقدم والمواطنة، كان من هؤلاء نجيب العازوري ونيقولا حداد وفرح أنطون وسلامة موسى. ولعلنا نرى أن ذلك وغيره مجتمعاً، وكان من نقاط التحرر التي وصل إليها أولئك المفكرون «تحرير المسيح» من المؤسسة الكنسية الاستبدادية، خصوصاً مع تحول هذه الأخيرة إلى دين للدولة منذ عهد الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع. لقد تحول الصراع من أجل تحرير المسيح من المؤسسة الكنسية الأحادية الرأي إلى صراع اجتماعي وسياسي ولاهوتي ثقافي، مطيحاً بالأفق المغلق للمسألة، وفاتحاً أمامها قضايا وطنية وقومية واجتماعية، ما أسهم في انقشاع الطائفية بحدود ارتدت على المسألة الوطنية، والقومية. وتتوج ذلك في محاولة تحرير المسيح الحاضر من «المسيح التاريخي».

كان الدور الطائفي الذي مارسته المسيحية في مراحل الغزو الخارجي الغربي، قد راح يتبخر في أفق الأفكار الوطنية والقومية العربية، ولم يكن هنالك من حاول أن يؤسس إمبراطورية أو دولة مسيحية من قبل المسيحيين العرب. بل إن طائفية مسيحية لم تظهر، بالاعتبار المؤسساتي، إلا ما تبلور في إطار الكنائس عموماً. بل كان المسيحيون وما يزالون يعتبرون أنفسهم مواطنين عرباً سوريين كانوا أو عراقيين إلخ، إلا فيما ندر. لكن في الحالات الضئيلة من النشاط الديني كان يظهر ما يشير إلى طائفية متحررة من السورية والعربية، في الخط العام.

وإذا كان هنالك من راح يبشر بالحروب الطائفية المسيحية الإسلامية الشيعية وغيرها، فإن ذلك ظل تعبيراً سياسياً وطائفياً ضيقاً، ويمكن إظهار اتجاهاتها الطائفية المسيحية و(السُنية وغيرها) دون التحول إلى ظاهرة شعبية واسعة. ويمكن متابعة هذه الفكرة بالقول إنه إذ يظهر هنا وهناك من الأشكال الطائفية في العالم العربي، فإن ذلك قبل مظاهر ملوثة بالمطامع والرغبات السياسية والثقافية الملفقة لدى مجموعات هنا وهناك تمارس أدوارها «الطائفية» على نحو مصطنع. وقد نعمم القول بأن سوريا، مثلاً، حتى الآن لا نجد فيها تيارات طائفية، إلا ما ندر.

وربما أحد أسباب تلك «الندرة» أن الغرب حاول منذ القرن التاسع عشر زرع روح طائفية في العالم العربي، فأخفق في ذلك، وإن تمكن من تأسيس منظمات وأحزاب سياسية تأخذ شكلياً بالهوية مظهر الطائفية. وها هنا أن نكشف عن بعض هذا المظهر في بعض الصراعات السياسية التي ينتجها راهناً. وعلينا أن نذكر بأن التهمة بالطائفية في الماضي بين ذوي طوائف مختلفة إنما كان بتأثير تدخل الغرب في الأقطار العربية. وحتى هذه الطائفية كانت تتحول إلى تآخ بين الطوائف العربية. والمقولة الشهيرة التي تشيد بالتآخي بين طوائف الشعوب العربية وهي: تعانق الصليب والهلال، ما تزال ترن في أذن من يعبر شوارع «الغير» هاتفة للوطن الذي يضم الجميع ويحميهم.