صالح الديواني

المجتمعات المتأخرة عن ركب التغير في العالم، هي التي ما زالت تستبد بحقوق المرأة، وتحجّم من قدراتها وتستهين بها، ولا تمنحها مساحة كافية، لتقديم ما لديها من قدرات

المتابع للمتغيرات الحديثة في تسارع رتم العصر، سيلاحظ حتما ظهور طلائع مشاركة المرأة المؤثرة جدا على عدة مستويات في الحياة الإنسانية. وبصماتها، وإن كانت متباعدة على مستوى مختلف العلوم، إلا أنها صنعت فارقا كبيرا ومهما في مسيرة البشرية.
فبعد أن كانت مشاركاتها تقتصر على بعض النواحي التي لا تخرج عن نطاق العائلة في معظم المجتمعات في العالم، باتت الآن متوسعة في مشاركتها بموازاة الرجل في كل شأن تقريبا في المجتمعات المتحضرة، فيما يعرف بالعالم الأول الذي أتاح فعليا ممارسة المرأة للأعمال المتعلقة بالمساواة في الحقوق والواجبات، عبر سن تشريعات تحفظ لهن حقوق تلك الممارسة، ويبدو أن النساء العربيات بدأن فعليا يدخلن مجال التأثير، بعد تحررهن من قيود التصنيف والثانوي، بعد انفتاحهن على العالم. 
المجتمعات المتأخرة عن ركب التغير في العالم، هي التي ما زالت تستبد بحقوق المرأة، وتحجّم من قدراتها وتستهين بها، ولا تمنحها مساحة كافية لتقديم ما لديها من قدرات، وتحصر أدوارها في أمور معينة لا يراها العالم الثالث إلا فيها، ومن خلالها، ومحاولة الضغط على المرأة عبر هذه الناحية، لإقناعها بضعفها الفكري والمهاري مقارنة بغيرها، لأن المقياس في الذهنية الذكورية هي القوة، تلك التي دائما ما تم تكريسها كفارق بين الرجل والمرأة، وبني على ضوئها شكل المقارنة بين الجنسين، وهو ما شاع في كل المجتمعات البشرية قديما، وما تزال النسبة الأكبر من تلك المجتمعات تضعها هناك، غير أن هذا الأمر لا يصلح إلا لنماذج الغابة، أكثر مما يصلح لحياة المجتمعات البشرية.
لقد كانت منجزات المرأة في الحياة البشرية، ذات طابع مفصلي في تاريخ العلوم باختلاف أنواعها، إذ يبرز المجال الطبي والفيزيائي والكيميائي في هذه الناحية بشكل لافت جدا، لا يمكن لنا إلا الوقوف أمامها إجلالا وتقديرا، ولمن صنعن تلك المنعطفات التاريخية فيها.
فما زال العالم يتذكر ويخلد إنجاز السيدة «ماري كوري»، التي اكتشفت عنصر الراديوم سنة 1898 مع زوجها بيير كوري، حين لاحظت أن النشاط الإشعاعى الصادر من معدن «يورانينايت» كان أكبر بمقدار خمس مرات عن غيره، وما زال العالم يتذكر السيدة «رونجتن» التي وضعت نفسها مكانا لتجارب زوجها على الأشعة السينية، التي تسببت لاحقا في وفاتها ورحيلها عن هذا العالم.
كثيرة ومؤثرة هي المحطات التي صنعتها النساء في تاريخنا العلمي، وآخرها ما أنجزته السيدة غادة المطيري وإكتشافها العلمي الأخير الذي يقول على إثره العلماء والأطباء، إن تاريخ الطب سيكون مقسما إلى مرحلة ما قبل وما بعد غادة المطيري التي قدمت للعالم طريقة جديدة لإجراء العمليات الجراحية في جسم الإنسان، دون الحاجة إلى استخدام المبضع والمشرط ونزيف الدماء، وذلك عبر استخدام معدن صغير يمكّن أشعة الضوء من الدخول إلى جسم الإنسان في رقائق تسمى الفوتون، ثم الدخول إلى الخلايا دون الحاجة إلى عمليات جراحية، وهذا ما مكّنها من الحصول على أرفع جائزة في مجال البحوث عام 2009.
هذه أمثلة صغيرة من تأثير وقوة النساء في العصر الحديث الذي أظنه سيكون عصرا لتفوق النساء على الرجال في ظل الحروب الطاحنة التي تعصف بالعالم من حولنا.
هذا الاكتشاف المفصلي في تاريخ البشرية، يعطي دلالة على أن المرأة لديها ما تستطيع ان تقدمه إذا ما تخلّص الرجل من عقدة تفوقه الوهمية، وتحديده -بعجرفة- ما يصلح وما لا يصلح للمرأة، من منطلق عقدة النقص التي يصمها بها على الدوام. فقد فسر الرجل لطف المرأة، وحنانها، وليونة جسدها، ونعومة صوتها، على أنها من صفات الضعف المحض، قياسا على قوته البدنية التي يلاحظها ويعدها فارقا جوهريا للحكم على النساء، غير أنه وكعادة التفكير العتيق، لم يلق بالا للمسائل الجوهرية المتعلقة بالتفكير والقدرات الإبداعية.
أمور كثيرة حدثت على مستوى العلوم تصدرتها المرأة خلال القرون الثلاثة الأخيرة من التاريخ البشري، نستطيع القول عطفا عليها: إننا أمام طلائع عصر المرأة.