نعمت أبو الصوف

توقع الطلب على النفط على المدى الطويل، ليس بالأمر الهين أبدا، ويزداد صعوبة مع الوقت، حيث إن المستجدات المتلاحقة مثل اتفاق "أوبك" الأخير، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي Brexit، والتطورات التقنية في مجال الطاقة المتجددة والبطاريات، وسياسات المناخ، ومفاجآت أخرى، يمكن أن تربك هذه التوقعات حتى على المدى القصير.


على سبيل المثال، في كانون الأول (ديسمبر) عدلت وكالة الطاقة الدولية توقعاتها على المدى القصير لتعكس طلبا أقوى من المتوقع في الصين وروسيا. ورفعت الاستهلاك العالمي للنفط لعام 2016 إلى 1.4 مليون برميل في اليوم، أي 120 ألف برميل في اليوم أكثر مما كانت تعتقد سابقا. وفي عام 2017 توقعت نمو الطلب بنحو 1.3 مليون برميل في اليوم، أي 110 آلاف برميل في اليوم أكثر من توقعاتها السابقة.
هذه التعديلات تعتبر سمة منتظمة في توقعات أسواق النفط للوكالة. إذا كانت واحدة من أبرز دور المعرفة في توقعات أسواق الطاقة في العالم تحتاج إلى تغيير توقعاتها على المدى القريب باستمرار، يمكن أن نرى لماذا توقعات سلوك المستهلكين على المدى الطويل يمكن أيضا أن تختلف بصورة كبيرة جدا.
على الأقل معظم الجهات الكبيرة التي تصدر التوقعات مثل "أوبك"، ووكالة الطاقة الدولية، وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، ومجموعة من شركات النفط الكبرى، لديها جميعا عامل مشترك واحد، وهو أنها جميعا تعتقد أن الطلب على النفط سيستمر في الارتفاع، مدفوعا بالنمو الاقتصادي في الاقتصادات الناشئة مثل الهند والصين، في قطاعات مثل البتروكيماويات والنقل البحري، والبري والجوي. للتعامل مع حالات عدم اليقين الكامنة في هذه التوقعات، يصبح التحوط الآن مسألة مهمة.
في توقعاتها لآفاق الطاقة العالمية، تتطلع وكالة الطاقة الدولية إلى ثلاثة سيناريوهات ـــ "السياسات الحالية"، "السياسات الجديدة"، و"سيناريو 450" ــــ تتميز فيما بينها بصورة رئيسة باستجابة العالم لسياسات تغير المناخ. فقط السيناريو الأخير يأخذ في عين الاعتبار الالتزام الكامل باتفاق باريس لتغير المناخ ويتوقع أن ينخفض الطلب على النفط بوتيرة حادة.
وتصدر "أوبك" أيضا مجموعة من السيناريوهات، بما في ذلك سيناريو واحد يشتمل على اختراق نسبي للمركبات الكهربائية في قطاع النقل، في حين تسلط إدارة معلومات الطاقة الأمريكية الضوء على متغيرات مختلفة إلى حد ما، وتصدر ثلاثة سيناريوهات لأسعار نفط مرتفعة، ومنخفضة ومتوسطة على أساس افتراضات مختلفة للنمو الاقتصادي العالمي. وعلى الرغم من اختلاف المنهجيات المستخدمة من أجل التوصل إلى توقعاتهم، فإن استنتاجات الوكالات الثلاثة البعيدة المدى تميل إلى أن تكون بشكل ملحوظ متماثلة – على الأقل في السيناريوهات الأساسية.
أحدث تقرير عن آفاق الطاقة العالمية لوكالة الطاقة الدولية، الذي نشر في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2016، يتوقع أن يصل الاستهلاك العالمي للنفط إلى 107.7 مليون برميل في اليوم في سيناريو السياسات الجديدة ـــ السيناريو الأساس للوكالة. ولكن في ظل سيناريو السياسات الحالية، الذي يفترض عدم اعتماد أي تدابير جديدة للمناخ، فإنها ترى أن يصل الطلب على النفط إلى 120.6 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2040. فقط "سيناريو 450" يتوقع تراجع استهلاك النفط بحدة إلى 82.2 مليون برميل في اليوم في عام 2040. يعتبر سيناريو الأسعار المتوسطة لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية مماثلا لسيناريو السياسات الحالية لوكالة الطاقة الدولية، وهما متطابقان تقريبا في استنتاجاتهما، حيث تتوقع أن يصل استهلاك النفط إلى 120.9 مليون برميل في اليوم في عام 2040. في الواقع، تتقاسم المنظمتان بعض البيانات، كما أن افتراضاتهما لأسعار النفط لعام 2040 متشابهة بين 140 - 150 دولارا للبرميل، توقعات شركة إكسون موبيل تشاطرهم أيضا هذا التوجه العام.
قبل كل شيء، معظم الوكالات الرئيسة التي تصدر التوقعات ترى اتجاه المسار نفسه، حيث يتوقعون فقط تباطؤا تدريجيا لنمو الطلب على النفط على مدى السنوات الـ 25 المقبلة، حيث لخصت وكالة الطاقة الدولية هذا الأمر في أحدث تقرير لها عن آفاق الطاقة العالمية قائلة "ذروة الطلب على النفط ليست في الأفق".
لكن، بدأت تظهر بعض التصدعات في هذا الإجماع. شركة شل، على سبيل المثال، كانت منذ فترة طويلة تقول إن الطلب على النفط سيصل إلى ذروته قبل العرض. حتى "أوبك" ترى إمكانية بلوغ الطلب ذروته بحلول عام 2029، على افتراض تنفيذ جميع التدابير الواردة في اتفاق باريس لتغير المناخ. ويعتقد كثير من المحللين أنه لا يوجد سيناريو واحد حول مستقبل الطاقة العالمية، وفي الواقع السياسات الحكومية هي التي ستحدد مسار الطاقة على مدى العقود المقبلة.
ولكن، استهلاك الطاقة يتحدد أيضا بسلوك المستهلك واقتصاد السوق. على سبيل المثال، طاقة الرياح والطاقة الشمسية هما بالفعل رخيصتان مثل باقي مصادر الطاقة في بعض أجزاء من العالم، طالما أن الشبكة الكهربائية قادرة على التعامل معهما، وتكاليفهما مستمرة بالانخفاض. انخفاض التكاليف يمكن أن يجعل حوافز سياسات الدعم الحكومي للطاقة المتجددة أقل أهمية، في حين أن تمويل البنية التحتية لجعلها قادرة على التعامل مع عدم استمرارية التيار لا يزال من المحتمل أن يتطلب تدخل الحكومة.
الطاقة المتجددة تمثل تحديا أكبر لمنتجي الغاز والفحم، التي تسيطر على قطاع توليد الطاقة. في حين أن النفط يمثل فقط 5 في المائة من طاقات التوليد العالمية. ولكن اعتماد مصادر الطاقة المتجددة وتحسين البنية التحتية لخطوط نقل الطاقة في الدول النامية سيستمران في كبح الطلب على وقود الديزل للمولدات ومحطات توليد الطاقة العاملة على النفط. المشكلة الحقيقية لصناعة النفط، وللجهات التي تنشر التوقعات، ستأتي إذا تخلص المستهلكون من محرك الاحتراق الداخلي. سيارات الركاب ـــ الجزء الأكثر عرضة للمنافسة من السيارات الكهربائية ــــ تمثل ما يقرب من خمس الطلب العالمي على النفط. قطاع النقل ككل يستهلك أكثر من نصف إمدادات النفط العالمية.
مع ذلك، لا يبدو أن عمالقة صناعة النفط قلقون للغاية من هذا التوجه. في هذا الصدد، تعتقد شركة كونوكو فيليبس أن السيارات الكهربائية لن يكون لها تأثير كبير في صناعة النفط لمدة 50 عاما أخرى. لكن، بعض التقديرات تشير إلى أن الطلب على النفط من سيارات الركاب يمكن أن يصل إلى ذروته في أوائل إلى منتصف العقد المقبل، حيث إن اختراق المركبات الكهربائية قد يجبر في المقابل مركبات الاحتراق الداخلي أن تصبح أكثر كفاءة.
ولكن السيارات فقط أحد عوامل عدم اليقين في التوقعات. الأقل إثارة، لكنه لا يقل أهمية، قطاع البتروكيماويات، الذي يعتبر حجر الأساس الآخر للطلب على النفط على الأجلين المتوسط والطويل. في السيناريو المرجعي لتوقعات النفط العالمية لعام 2016، تعول "أوبك" على أن يرتفع الطلب على النفط في قطاع البتروكيماويات بنحو 3.4 مليون برميل في اليوم، أو 28 في المائة، بين عامي 2015 و2040، ليصل إلى 15.3 مليون برميل في اليوم. لكن النفثا تواجه منافسة متزايدة من الغاز ومن تقنيات مثل تحويل الفحم إلى أوليفينات والميثانول إلى أوليفينات في الأسواق الرئيسة مثل الصين. لذلك أسعار النفط يجب أن تبقى منخفضة بما فيه الكفاية ليتمكن النفط من الحفاظ على قدرته التنافسية مع هؤلاء المنافسين.