فهمي هويدي

نسينا نموذج المثقف المناضل الذي يحمل السلاح ويقاتل دفاعا عن كرامة وطنه وشعبه، في حين امتلأ فضاؤنا بنموذج المثقف المراوغ. الذي يتوارى وراء حجج الانبطاح ويتفنن في الدفاع عن الباطل. هذا الأسبوع ذكرنا باسل الأعرج بذلك النموذج المنقرض والمنسي. إذ فتح أعيننا على تلك الكائنات الفريدة وغير المرئية، التي لا تذكر أسماؤها فى الصحف إلا حين يقتلون في صراعهم مع العدو. يصيرون نجوما وأبطالا حين يرتقون في سلم الشهادة فيغسلون بدمائهم أرواحنا ويعيدون إلينا الثقة والأمل.

باسل الأعرج (٣١ سنة) صيدلي ترك علومها ومهنته، وقرر أن يتخصص في فلسطين، تاريخها وأهلها وحلمها. لم يكتف بالقراءة والكتابة والتظاهر، وإنما أدرك أن السلاح وحده الذي سوف يحرر فلسطين، واعتبر أن كل ما عدا ذلك باطل. لم يعظ ولم يخطب وإنما حمل السلاح بنفسه وبث دعوته في محيطه، وانطلق مع مجموعته غير مبالين لا بشراسة العدو واستعلائه، ولا بعفن التنسيق الأمني وارتمائه.

حين رثاه رفيقه الباحث الفلسطيني أحمد الدبش، وعبر عن مشاعره بنص للمناضل الفلسطيني غسان كنفاني قال فيه: إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح. وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شىء احترموه، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت، وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب، ولكن أيضا بدلا من طراز صاعق.

أضاف: قرأ باسل تجارب المقاومة في زمن الاحتلال البريطاني. وأدرك أن حرب العصابات هي الطريقة المثلى لاستنزاف العدو. وكان يردد أن «المقاومة قاطع طريق بمشروع سياسى». كان شعاره في الحياة والممات «ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلطة والزلة، وهيهات منا الزلة».

كان باسل أحد أبرز المنظمين للمظاهرات الشعبية الداعية إلى مقاطعة العدو الصهيوني والمنددة بالاستيطان. وقد تعرض للضرب والإصابة بجراح عدة من قبل جهاز أمن السلطة. واعتقل بعد ذلك مع خمسة آخرين بتهمة التخطيط لمهاجمة العدو الصهيوني، واضطرت السلطة للإفراج عنه بعد إضرابه ورفاقه عن الطعام. وبعد خروجه اختفى عن الأنظار، وتحول إلى مطارَد يلاحقه الجيش الإسرائيلي في شوارع وحواري رام الله.

هذا الأسبوع، في فجر يوم ٦ مارس، اقتحمت الآليات الصهيونية مدينة البيرة وحاصرت بيته لكنه لم يستسلم وسارع إلى الاشتباك معها إلى أن قتل ورشاشه بيده. في رثائه الذي اقتبست عنوانه قال رفيق آخر له هو محمد جميل: إن باسل مضى إلى النهاية. إلى حدود الإثبات بالدم لصحة سرديته النقدية لظاهرة نشطاء النخبة، الذين يجولون بحواسيبهم التي تحمل شعار «التفاحة» على المؤتمرات والورش الممولة، منذ أن كان يجوب شوارع وحقول الضفة الغربية ليجمع حوله الطلاب والمزارعين محاضرا فيهم عن سبيل التحرير وتحقيق العدالة الاجتماعية وعن بطولات الفدائيين العرب الأوائل في مواجهة الاستعمار الإنجليزي والفرنسي. كفيلسوف منفصل عن زمانه خرج لتوه من كتاب يروي قصة متمرد على ملك جائر في القرون الوسطى، أو وهو يظهر على شاشة التلفاز ليرد على مذيع سلطوي يحذره من كون ما ينادي به يمثل خرقا للاتفاقات الدولية، بأنه يريد فعلا خرقها واستعادة فلسطين من بحرها إلى نهرها، وفوقها الجولان، لأنه فلاح و«الفلاحون طماعون بطبعهم»! وختم رثاءه قائلا: باسل رأى مصيره منذ البداية وأشرف على تجهيز فصله الختامى بنفسه، وإلا فمن أين أتى كل هذا الموت المتقن، والذي لشدة إتقانه استحال إلى حياة يبثها فيمن حوله؟ كيف يكون الفلسطينيون موتى مهزومين يتسرب الأمل من بين أصابعهم، ولا يزال فيهم من هو مثل باسل الأعرج؟!