فـــؤاد مطـــر

في اليوم الثالث (الجمعة 3 مارس/ آذار 2017) من زيارته إلى إندونيسيا ضمن جولته التي شملت ماليزيا وبروناي واليابان والصين، كانت للملك سلمان بن عبد العزيز رسالة في شكل صورة تعكس بكل صفاء رؤية خادم الحرمين الشريفين، إلى مسألة التنوع في المجتمعات العربية والإسلامية.

وكانت تلك الرسالة تتمثل في لقطة مصوَّرة للملك والرئيس الإندونيسي محاطيْن عن يمينهما ويسارهما بشخصيات مِن المسؤولين في الدولة، وبعض رموز المجتمع المدني من رجال ونساء مسلمين ومن سائر الأديان، في إندونيسيا. كانوا 22 رجلاً وأربع نساء. الرجال بثيابهم الزاهية وقبعاتهم، والنساء بأغطية الرأس التي تضفي المزيد من الوقار عليهن. وأما الملك فإنه بعباءته البيضاء وغترته كان بتوسُّطه هذا الجمع التنوعي يزيد تأكيداً عبارته التي وردت في بداية لقائه بهذه الشخصيات، وأشار فيها إلى أن «إندونيسيا تتمتع باستقرار سياسي ونهضة اقتصادية، تُسعد كل إنسان محبٍّ، نتيجة روح التسامح والتعايش بين أبناء الشعب الإندونيسي بجميع فئاته».
وعندما نقول إن المشهد الذي نشير إليه، وكذلك كلام الملك سلمان، هما رسالة إلى أطراف كثيرة في الأمتين يمارس بعضها أساليب لا يقرها الدين الحنيف، ولا يرضاها رب العالمين، ومنها الذي أصاب الكثيرين من إخواننا المسيحيين في سوريا والعراق ومصر، فإننا بذلك نرى أن هذا بمثابة قول فصل إزاء مسألة بات لزاماً وَضْع حد لها. وعندما تأتي من كبير الأمة وعُمق العقل ونقاء النية ورجاحة التحليل للوضع، فإنما هي أيضاً نوع من التدعيم لمبادرات طيِّبة من جانب حكماء من رجال الدين، وأهل عِلمْ وفِكْر جمَعَهم في رحاب الأزهر الشريف شيخه الدكتور أحمد الطيِّب، وناقشوا كل ما من شأنه تعميق الفكرة موضوع المؤتمر، وهي «الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل». ومن خير الصدف أنه في الوقت الذي كان فيه المجتمِعون في رحاب الأزهر ينتهون بعد مناقشات على مدى يومين إلى إصدار «إعلان الأزهر للمواطَنة والعيش المشترَك» مساوياً بين المسلمين والمسيحيين في مسألة المواطَنة هدياً بما نصَّ عليه «دستور المدينة»، وما تلاه من كُتب وعهود للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم... إنه من خير الصدف أن الملك سلمان كان قبـل سـاعات يخاطِب، وهو في جاكـــــــــرتا (الجمعة 3 مارس 2017)، الجمع الإندونيسي، مشـــــدداً على روح التســــــامح وأهمية محاربة الغـــلوِّ والتطـــــــرُف في جميـــــع الأديان والثقافات.
هذا التأكيد من جانب الملك سلمان على ضرورة إحاطة التنوع بكل الاهتمام، والحرص على إبقائه في منأى عن الموجات العابرة المباغتة من الغلو والتطرف، وإرفاق التسويق من الأفكار بالأعمال التي يحرِّمها الدين، وبالذات القتل والإرهاب والتدمير والعبث بالقيم والتراث، هو مواصلة وتأكيد للنهج السعودي، ولنا في مبادرة الملك فهد بن عبد العزيز (رحمة الله عليه) المثال على ذلك، وكيف أنه ومعه إخوانه، وكذلك مباركة شعب المملكة للسعي، تعاملوا مع لبنان في أزمته التي قاربت على الاستعصاء في النصف الثاني من السبعينات، على أساس أن التنوُّع ميزة، ويجب ألا يكون مشكلة. وهو خاطب ممثلي الشرعية اللبنانية التي كانت مستهدَفة من الظاهرة الميليشياوية في بعض سنوات السبعينات والثمانينات، مثل ظاهرة «داعش» في أيامنا هذه، مخاطبةَ القائدِ بعيد النظر والحادب في الوقت نفسه على وطن وشعبه كادا يقعان في غياهب الجبّ، ولا يجدان مَن ينتشلهما، كما حدث مع يوسف. لم يميز الملك فهد بين لبناني مسلم سُنِّي ومسلم شيعي وموحِّد ومسيحي، كان هذا اللبناني. وهو من هذا المنطلق الطيِّب أمكنه التوجيه بألا يعود اللبنانيون كما أتوا، وإنما على جناح اتفاق الطائف، الذي لولاه لكان حال لبنان من حال سوريا راهناً التي ندعو لرئيسها و«جيوشها» والمراهنين عليها والمتلاعبين بأقدارها بالهداية.
وتكراراً نرى في صورة الملك سلمان يتوسط الرئيس الإندونيسي وممثلي الأديان الأخرى في هذا البلد ذي الربع مليار نسمة، دعوة خير إلى تثبيت التنوُّع الذي يتلاعب به قادة متحالفون ضمناً مع العابثين بالتنوع، وليست مجرد لقطة كاميرا مصوِّر حاذق.
هذا كان في إندونيسيا. أما في المحطة اليابانية من الجولة السلمانية، فإن الدعوة إلى السلام في منطقة الشرق الأوسط بالذات كانت نقطة انبهار أهل الحُكْم الإمبراطوري والحكومة والإعلام الياباني بالمفردات التي وردت في كلمات ألقاها الملك سلمان، وكذلك في عبارات قالها خلال جولات المحادثات. ولأن اليابان عاشت عقوداً بالغة المرارة من الصراعات الدولية عليها، ويعرف الجيل الحالي من أهل الحُكْم والمجتمع المدني أي ويلات أصابت بلدهم الذي كان الوحيد بين دول العالم الذي جرّبت الولايات المتحدة قنبلَتَها النووية على أرضه وعلى بعض سكانه، فإنها بطبيعة الحال، وهي ترى أن التلويح بالنووي من جانب دولتَيْن مقلِقَتَيْن في المنطقة، هما إيران وإسرائيل، هو ما يتردد بين الحين والآخر، تخشى أن تصاب دول كثيرة من تصرُّف غير مسؤول من إحدى الدولتَيْن أو من الاثنتَيْن معاً، على نحو ما سبق أن أصاب اليابان، وما زالت هنالك بعض آثار استعمال النووي على أجساد وعلى تراب أرض لم تَعُد صالحة للعطاء. ومن هنا، فإن كلام الملك سلمان عن السلام، وسعيَه من أجل ذلك، وتمسُّك المملكة بمبادرة السلام العربية، على نحو ما أكده ولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، خلال ترؤسه جلسة مجلس الوزراء، يوم الاثنين 13 مارس، وفي الوقت الذي كان أهل الحُكْم الياباني يسمعون من الملك ما يبعث على الارتياح والتقدير، يندرج هو الآخر في السعي السعودي من جانب خادم الحرمين الشريفين، وقبل ذلك من صاحب «مبادرة السلام العربية»، أخيه الملك عبد الله (رحمة الله عليه)، لنَشْر السلام في المنطقة. وبطبيعة الحال، فإن الأخذ به يؤسِّس لنشره في مناطق كثيرة. هنا يستوقفنا كلام كتبه رئيس تحرير صحيفة «طوكيو» باسم أسرة الصحيفة، وتضمَّن الآتي: «إن العالم يمرُّ بمرحلة من التقلبات الخطيرة، وفي خضَم هذه المرحلة يلتف الشعب الياباني برمته حول مبدأ السلام العالمي، بصفته خياراً لا بد من التمسُّك به، وهدفاً للسياسة الدولية. ومن هذا المنطلَق يعلِّق اليابانيون آمالاً كبيرة على الدور الذي تقوم به المملكة العربية السعودية لتحقيق هذا الهدف المشترَك، وتكتسب زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز لليابان أهمية بالغة على إعلاء صوت السلام على الصعيد العالمي، وهو صوت نحتاج إليه هادراً في هذه الأوقات الصعبة».
بعد اليابان سيسمع أهل الحُكْم الصيني من الملك سلمان التأكيد على هذا الكلام. وبذلك تكون جولته الآسيوية جولة قائد - داعية إلى نَشْر السلام، وكذلك إلى تثبيت التنوع.
وهذا هو سلمان بن عبد العزيز ماضياً وحاضراً ودائماً، الذي من شأن إضافة «نوبل لتثبيت التنوع ونشر السلام» إلى ما على صدره من عشرات الأوسمة العربية والدولية، وإلى مثيلتها من شهادات دكتوراه فخرية تقديراً لمسيرته، أن تعتز تلك الجائزة الدولية به.. . .