أمين طلال

الدين ينهى عن الفحشاء والمنكر في كل الأحوال، بينما التدين قد يجيز شيئا من المنكر طالما كان الأمر في الخفاء ولا يخدش السطح أو يشوه المظهر العام

 للشيخ «علي الطنطاوي» –رحمه الله- قصة أوردها في كتابه «قصص من الحياة» عن شيخ له تلاميذ وطلبة علم، وذات يوم لم يحضر عند الشيخ إلا عدد قليل من التلاميذ، فعلم بعد السؤال عن البقية بأنهم في المرقص يحضرون عرضا لراقصة مشهورة، فعقد الشيخ عزمه أن يذهب للمرقص، وفعلا ذهب ودفع لصاحب المرقص مبلغا من المال كي يخطب في الناس، في المرقص وحين رُفع الستار تفاجأ الحضور الذين كانوا ينتظرون الراقصة، بشيخ وقور يجلس على الكرسي ويخطب فيهم مذكرا بالله ومستعرضا للآيات والأحاديث، فسخروا منه بادئ الأمر ثم مع الوقت بدؤوا ينصتون لما يقول.
والقصة تحوي تفاصيل أكثر، وتحوي منافع وعبرا، ولو أردت إعادة صياغتها من جديد وجعلها تلائم وقتنا الحاضر، فسأحكي عن شيخ وقور ذهب يوما إلى المرقص ليعظ من فيه ويذكرهم بالله، فتفاجأ الحضور الذين كانوا في انتظار فقرة رقص وعربدة برؤيته يجلس أمامهم ليخطب فيهم مذكرا بالله، ما سيستجد في الحكاية متلائما مع وقتنا الحاضر أن المفاجأة لم تصب رواد المرقص وحدهم إنما داهمت الشيخ الوقور أيضا، حين وجد بين الحضور رجالا كان يعدهم أخيارا صالحين، فهذا رجل دين معروف، وذلك داعية وهنالك يجلس واعظ لم يكف يوما عن تذكير الناس بحُرمة التواجد في الأماكن المختلطة، هذا كل ما سيستجد في الحكاية، إن الحيرة والارتباك والذهول ستكون متبادلة بين الشيخ الوقور ورواد المرقص.
في القصة كما حكاها الشيخ «علي الطنطاوي» أن معظم من كان في المرقص تملكهم شعور بالندم والرغبة في التوبة، أما في القصة بعد ملاءمتها الحاضر فإن من عدهم الشيخ الوقور أخيارا صالحين وقفوا بلا خجل وراحوا يُنكِرون عليه إنكاره، ويختلقون الحجج والأعذار التي تبرئ ساحتهم وتُظهرهم بمظهر الأطهار رغم تواجدهم في المرقص بكامل إرادتهم، وبعضهم أخذ يصف الشيخ الوقور بأنه الفاسق داعية الانحلال المحارب لله ورسوله، لأنه أنكر على الصالحين ورثة الأنبياء تواجدهم الفعلي بين الغواني المائلات! فما العلة هنا؟ العلة ببساطة أن الدين لله والتدين للمجتمع.
جمرة الدين مهما ضعفت تحتفظ بقابلية الاشتعال حتى في صدور من تمادوا في الانحدار، بينما ليس للتدين جمرة إنما مظهر ولا بد من الحفاظ عليه كما آلفه الناس واعتادوا عليه، العلة أن الدين ينهى عن الفحشاء والمنكر في كل الأحوال، بينما التدين قد يجيز شيئا من المنكر طالما كان الأمر في الخفاء ولا يخدش السطح أو يشوه المظهر العام، الدين يتجه للداخل حيث الجوهر والقيمة، بينما التدين يتجه للخارج حيث المظهر لا بد أن يبقى لامعا، العلة أن الدين قاد الشيخ الوقور للمرقص كي يعظ الناس ويذكرهم بالله، بينما التدين قاد زُمرة للاختباء في المرقص طيلة المساء فإذا طلعت الشمس انطلقوا للنهي والإنكار.
الإشكالية ليست حول إنكار التواجد في المراقص والكباريهات، أو الخمر والربا والخلوة بين الشاب والفتاة، فهذه أشياء ينكرها كل العقلاء، الإشكالية حين يتقدم الشيخ والداعية والواعظ للنهي وإنكار أشياء هي من ضرورات الحياة الاجتماعية، لأنه سيضطر مجبرا في آخر المطاف كونه كائنا اجتماعيا أن يرتكب كل ما قد نهى عنه سابقا، ولأن مثل هذا الإنكار يقوم دائما على مبادئ باطلة وأسس واهية، فإنه ينهار أول ما ينهار في عقول من تصدروا للإنكار، كإنكار استخدام وسائل التواصل والاختلاط والابتعاث، إلخ من الوسائل والأفعال التي لا معنى للحياة الاجتماعية بدونها.
الإشكالية اليوم ليست في ذهاب شيخ وقور للمرقص وتفاجئه برؤية رجال كان يعدهم من الصالحين بين الحضور، إشكالية اليوم أن يستخدم الجوال من كان ينكر استخدامه سابقا، ويفتح أحدنا التلفاز فيجد نجومه ممن كانوا يحرمون الظهور في الإعلام بالكلية، ويذهب أبناؤنا للابتعاث فيصاحبون أبناء من لا يزالون ينهون عن الابتعاث، الإشكالية أن خطاب التحريم والنهي عن الاختلاط لا يزال متأججا، ومع هذا يتسابق المنكرون المعارضون للتواجد في كل محفل فيه اختلاط واضح.
وأسوأ ما في الأمر أن يردد أحدهم «لكن» أثناء وبعد فعل ما كان وربما لا يزال يراه منكرا، «لكن» هنا ليست مجرد كلمة تقال كتبرير فقط، إنما هي عملية تحويل الخطأ إلى صواب، وليس أي صواب إنما صواب لا يجوز التشكيك فيه، «لكن» تقلب موازين التفكير الإنساني، فهي تجيز تحايل المرء على قيمة ومراوغته مبادئه، وتلغي مفهوم الاعتراف بالخطأ لتستبدله بحياكة شبكة من الحجج والأعذار والتبريرات التي تظهر المخطئ مصيبا أمام المجتمع، وكأن الغاية هي إرضاء المجتمع لا الله.
«لكن» أنا من المصلحين، إذاً استخدامي الجوال فيما يرضي الله، وذهاب أبنائي للابتعاث فيه منفعة للبلاد والعباد، واختلاطي بالمائلات المميلات لخدمة الإسلام والمسلمين، «لكن» غيري من المفسدين، إذاً استخدامهم للجوال فيما يُغضِب الله، وإرسال أبنائهم للابتعاث تغريب ورغبة في الانحلال، واختلاطهم بنفس المائلات المميلات فجور وفسق، «لكن» هنا وبهذا المعنى تهدم ولا تبني، تهدم قيمة المرء، وتهدم فكرة التمسك بالقيم والمبادئ، وتحول الصادق كاذبا والكاذب من المصلحين، لكن الجميل في «لكن» أن استخدامها بكثرة دليل على تعرض الأوثان التي بناها التدين الشكلي لعوامل التعرية.