عبدالله العوضي

النازية القديمة أكلت في طريقها أكثر من 30 مليون أوروبي، وخاض العالم حربين عالميتين لوقفها عند حدها بعد دحرها في عقر دارها، فذهب بهتلر وفظائعه أدراج الرياح.

ثلاثة عقود من حرب القرن الماضي كادت تحرق الكرة الأرضية وليس أوروبا وحدها فقط، لإرضاء غرور ونزوات رجل واحد وفق مفهوم «ومن بعدي الطوفان».

وحل مشروع مارشال مشكلة إعادة البناء، وأعاد الديمقراطية والعدالة والحرية والمساواة وكرامة الإنسان الأوروبي، التي من خلالها سادت أوروبا ومعها أميركا العالم بعد أن نالت المرتبة الأولى في معظم مجالات ومسارات الحياة لكل من دب على الأرض.

بعد مرور ثلاثة عقود أخرى على تلك المآسي البشرية، ارتقت اليابان التي دمرتها القنابل الذرية أعلى درجة في الاقتصاد متخطية أميركا التي حطمتها وأسلمتها لدستور لا رائحة للحرب والانتقام فيه، هذا في الشرق الآسيوي، أما في الغرب الأوروبي، فتأتي ألمانيا التي احترقت بنار النازية الأولى، وقسمت إلى دولتين شرقية وغربية، شرقية شيوعية لا يجد فيها الفرد من كل راتبه أو دخله الشهري قيمة وجبة ماكدونالد في شطرها الغربي، وقد هدّت سور برلين لكي تنال الدرجة الأولى على أخواتها الأوروبيات، وهي التي تقود الاتحاد الأوروبي اليوم بلا منازع من غريمتها التاريخية فرنسا، حتى أصبحت يدها البيضاء ناصعة مع أخواتها اللاتي تدهورن في الأزمة الاقتصادية للعام 2008 عندما دفعت بليارات اليوروهات باتجاه إيرلندا واليونان وغيرهما لتخطي العتبة الأولى لحدة الأزمة.

أما في العالم الذي سمي بالثالث، وفي باطنه عوالم للرابع والخامس وهلمّ جرّا، خلال قرن مضى، حيث أوروبا وأميركا والدول التي أنتجت بعض أساليبها في الحكم والإدارة كانت تبني حضارتها الخاصة، فكان العالم العربي والإسلامي يجتهد من خلال بعض النخب الفكرية والسياسية للزحف نحو مشروع نهضوي تنويري. ولكن انطفأت أنواره عند أول صدام بينه وبين بدايات تكوين نازية من نوع آخر باسم الدين والخوف من الانحطاط في الغرب وشراسة الرأسمالية الجشعة والشيوعية الملحدة والأفكار القومية التي ألغت الكثير من ثوابت الأمة العربية والإسلامية منذ مئات السنين ظناً منه في بناء شيء جديد لم يسبق إليه، وهو الذي ظهرت نتائجه اليوم على شكل «القاعدة» و«حزب الله» و«الثورة الخمينية» و«داعش» و«الحوثيين» والحركات الإسلامية التي ادعت بأن السياسة وشؤون الحكم تركتها وراءها ظهريّا وعند اشتعال «الربيع العربي» عادت السياسة التي كانت من المكفرات الشرعية نصب عينيها!

كان سباق البناء الحضاري مستمراً هناك في الدول التي تخلصت من النازية الأولى، ولكن نزف نازية التطرف والإرهاب زاد عن أفعال النازية القديمة لأنها أكلت من حصاد الدول والأوطان أكثر من حصاد الضحايا من البشر، ولم نعثر من وراء كل ذلك على مشروع حضاري منافس لما لدى الغرب من أوجه التطور في كل مجالات الحياة الدنيا والآخرة.

نتيجة هذا الإعصار المتطرف في العالم العربي والإسلامي عن كل حدود الانحراف في الفكر والمنهج، ظهرت في المقابل نازية متطرفة، يتبناها اليمين المتطرف في أوروبا على وجه الخصوص، وقد وصل بعض آثارها إلى أميركا في عهد ترامب، وإن استمرت هذه النازية المتجددة ولو بصور مختلفة على سابقاتها، فإن الضحية الأولى لها هي ذهاب الأوطان والدول هباء منثوراً ثمناً باهظاً لهذا التطرف المضاد الذي لن يعالج المشكلة لها في الشرق المبتلى ولا الغرب الملتقى.

فلوبن، على سبيل المثال، المرشحة للرئاسة الفرنسية المقبلة، تريد التخلص من الإسلام وليس التطرف بنهجها النازي، فهي في دولة العلمانية التنويرية لا تستطيع رؤية الرموز الدينية في الأماكن العامة على حد زعمها، وهذا التصرف يمكن تقبله في أي دولة أوروبية أخرى إلا من فرنسا لأنها هي من أهدت أميركا تمثال الحرية التي كتبت عليها في هذه الأيام عبارة وشعار «مرحباً باللاجئين» والبحث جار عن مرتكبي هذه الجريمة النكراء، رغم أن المسلمين يقومون فعلاً في أميركا بجمع تبرعات لترميم مقابر يهودية لا يعرفون من حطم شواهدها التاريخية، ولكن عين السخط لا تبدي إلا المساوئ وما يفترض في هذه الحالة أن تعلو عين الرضا عن العيوب لدوام التعايش والتمازج باسم الحضارة الإنسانية الواحدة، وهو ما لا يحدث بمحاربة الإسلام بسبب تطرف البعض، فالنازية الجديدة لا تأكل إلا من أضرم نيرانها سواء في الشرق أو الغرب ونحسن الظن بالغرب الحضاري بأنه أقدم على تفهم هذه النقطة التي أججت حروباً متوالية العدد وما زالت مشتعلة، فمتى يتفق الغرب على أن الحضارة التي تقتل «النازية» أينما ولدت وئدت.