عبدالله بن بجاد العتيبي

ليس ذكياً بدرجةٍ كافيةٍ من كان يظنّ أن تحالفاً كبيراً بين دولتين استمر لثمانين عاماً يمكن أن يتم القضاء عليه في ثماني سنواتٍ فقط، ولا أن حلفاً مرّ عليه اثنا عشر رئيساً وسبعة ملوكٍ يمكن قطعه لرغبةِ شخصٍ أو بضعة أشخاص فحسب.


هذه باختصارٍ هي قصة التحالف السعودي - الأميركي الذي بدأ مع الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت، ولم ينقطع على مدى ثمانية عقودٍ، ولم تعترِه مشكلات كبرى إلا في سنواتٍ ثمانٍ من حكم الرئيس السابق باراك أوباما.
في زيارةٍ لولي ولي العهد السعودي للولايات المتحدة الأميركية الأسبوع الماضي، استطاع الأمير الشاب (على عادته) قَلْب المعادلات وكَسْب الحلفاء والتعامل الصارم مع الأعداء والخصوم، وأن يعيد التوازن للعلاقات الدولية في المنطقة والعالم.
كان الأمير أول قائد عربي ومسلمٍ يلتقيه الرئيس دونالد ترمب رسمياً، وقد مثّل في حواراته في واشنطن، مع الرئيس، ووزير الدفاع والمسؤولين الأميركيين الثقل الحقيقي والمكانة المستحَقة لبلدٍ بحجم المملكة العربية السعودية، لا بتاريخها فحسب، بل بواقعها الذي تبنيه، ومستقبلها الذي تطمح إليه برؤيةٍ (رؤية السعودية 2030) تمتد لخمسة عشر عاماً في قادم الأيام هو عرّابها ومهندسها.
من أهم نتائج الزيارة بناء تفاهماتٍ كبرى حول القضايا الملِحّة بالنسبة للبلدين، خصوصاً قضايا المنطقة وأزماتها، تلك التي تبتدئ بإيران، وتنتهي بها، وقد نشر موقع «العربية نت» أنه، وبحسب «ما نشرته صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية، فإن بيان البيت الأبيض قد أعطى ملمحاً عن شكل السياسات الخارجية التي ستنتهجها الإدارة الأميركية الجديدة تجاه الشرق الأوسط، وكذلك عَكَس البيان مدى تأثير المملكة العربية السعودية في تشكيل تلك السياسات».
وهذا أمرٌ طبيعي، نظراً لما اكتنف الزيارة من ترحيبٍ غير مسبوقٍ بزيارة الأمير، والملفات التي عرضها، ووجهة نظر السعودية التي شرحها، ومرتكزات استئناف العلاقات ومجالات تطويرها على جميع المستويات؛ السياسية والاقتصادية وغيرها، مع بحوثٍ مستفيضةٍ تجاه ملفات المنطقة وأزماتها، كما تجاه الأزمات الدولية والمشكلات الكبرى التي يواجهها العالم.
لم تتغير السعودية، ولكن الولايات المتحدة الأميركية عادت لنفسها، ولمكانتها، ولرعاية مصالحها، وللتواصل مع حلفائها، وكفّت عن التودد لخصومها، والخضوع لهم، وباتت تسعى لاستعادة مكانتها على المستوى الدولي، وتعيد الاهتمام بالإشكاليات الكبرى التي تواجه العالم، وعلى رأسها ملفات مِن مِثْل محاربة الإرهاب، والقضاء على تنظيماته وميليشياته.
أوضح الأمير بشكلٍ جلي أن السعودية صاحبة قدم السبق في محاربة الإرهاب هي الهدف الأول لكل جماعات الإرهاب والتطرف وتياراته وتنظيماته، تلك التي تخلق التطرف المؤدي بالضرورة للإرهاب، وتلك التي تنفذ الإرهاب.
يعي كثيرٌ من المفكرين الكبار في أميركا دور السعودية المحوري عربياً وإسلامياً، إقليمياً ودولياً، وهم الذين يمثلون الامتداد الحقيقي لمصالح أميركا، ومن ذلك النصيحة التي كتبها وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق هنري كيسنجر في كتابه «النظام العالمي»، قائلاً: «يجب على أميركا أن تعمل على استقطار فهمٍ مشتركٍ مع بلدٍ (السعودية) هو الجائزة المحورية الأخيرة المستهدفة من قبل كلٍ من صيغتي الجهاد السنية والشيعية على حدٍ سواء، بلدٍ ستكون جهوده ومساعيه... أساسيةً وجوهريةً في رعاية أي تطورٍ إقليمي بنّاء».
السعودية الجديدة هي دولةٌ قويةٌ تعي قوتها ومكانتها، وتفهم قدراتها وتفعلها، فهي بالتالي عاملٌ مهمٌ وصعبٌ لا يُمكن تجاهله، وهي تتجاوز أي قصورٍ في الماضي، وتعالج أي أخطاءٍ سلَفَت، بقوة التجدد والمعرفة، وهي منفتحةٌ على العالم والتواصل معه وبناء العلاقات الاستراتيجية التي تخدمها وتخدم شعبها، كما أنها تعي أدوارها الإقليمية والدولية، وتستخدمها في كل ما يعود عليها بالنفع.
يتحدث الأمير مع نظرائه الأميركيين بأن السعودية الجديدة تقود تحالفاتٍ إقليمية بالغة الأهمية، لا للسعودية فحسب، بل للعالم بأسره؛ «التحالف العربي» تجاه الأزمة اليمنية، و«تحالف الدول المسلمة» ضد الإرهاب، وهي شريك متقدم في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وهي قادرةٌ على بناء تحالفاتٍ أكثر فاعليةً وتأثيراً في العديد من الملفات الدولية والإقليمية.
تناقلت وكالات الأنباء ووسائل الإعلام ما جرى في هذه الزيارة التاريخية، وستتناقل الكثير مما لم يُعلَن بعد، ولكن الجميع يصب في دولةٍ متجددةٍ تسعى جهدها لتوظيف كل عناصر قوتها لخدمة مصالحها ومصالح شعبها وحلفائها، وهي تمتلك كل ما يمكنه أن يجعل تحقيق أهدافها سهلةً وميسورةً.
المشاريع المشتركة التي أعلن عنها ولي ولي العهد في أميركا بقيمة مائتي مليار دولار، وفتح المجال للاستثمارات الأميركية في السعودية، تُضاف إلى حزمة المحفزات لبناء علاقاتٍ متوازنة ومتكاملة مع جميع دول العالم.
بناءً على هذه الزيارة الناجحة، فلن يكون الأثر السياسي هو الأثر الأهم فحسب، بل سيتبعه أثر اقتصادي بالغ الأهمية؛ إنْ في أسواق النفط أو في أسواق الطاقة بشكلٍ عامٍ، وستتم إعادة التوازن من جديد للعديد من الأسواق.
عبَّر ولي ولي العهد السعودي عن القوة الروحية لبلاده، وقدرتها على قيادة العالم الإسلامي نحو تغييراتٍ مهمةٍ في الخطاب الديني، وهي جديرةٌ بذلك، ومع الإقرار بخطر الإرهاب، فإن أي مهمةٍ للقضاء عليه، يجب أن تنبع من المسلمين أنفسهم، وأن تقودها دولهم، بعيداً عن خطاب جماعات الإسلام السياسي والنظام الإيراني.
تحدث الرئيس الأسبق بيل كلينتون عن بلاده بأنها «أميركا هي الأمة التي لا يُمكِن للعالم الاستغناء عنها»، وهو ما كرره أوباما في 2012 قائلاً: «تبقى الولايات المتحدة هي الأمة التي لا يستغني عنها العالم»، ولكن أوباما في الواقع صَنَع كل شيءٍ ليجعل العالم يتعطش للاستغناء عن أميركا برمتها، بل لقد دفع بعضَ مَن عمل تحت إدارته ليؤلف كتاباً تحت عنوان «الأمة التي يمكن الاستغناء عنها»، وهو كتاب ولي نصر الذي عمل مع إدارة أوباما تحت إشراف ريتشارد هولبروك.
أخيراً، فإن ما تؤكده زيارة ولي ولي العهد السعودي لأميركا هو أن السعودية هي «الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها» تاريخياً ولا واقعياً، فالتاريخ وقصته طويلةٌ معروفةٌ، والواقع يتحدث أنها دولةٌ مليكها في أقصى الشرق، حيث اليابان والصين، وحيث ماليزيا وإندونيسيا، وولي عهدها في البلاد يحفظ الأمن والأمان ويرعى الاستقرار، وولي ولي عهدها في أقصى الغرب.