أمير طاهري

بعد شهر عسل دبلوماسي موجز غلبت عليه الدعاية والأماني الطيبة، يبدو أن العلاقات بين إيران وتركيا قد وصلت إلى مستوى متدن جديد مع تبادل الاتهامات والتهديدات بين طهران وأنقرة. وتزعم طهران أن أنقرة تحمل طموحات الإمبراطورية العثمانية الجديدة مع أحلام ببسط الهيمنة على العراق وسوريا. ومن جانبها، تتهم أنقرة طهران بإشعال النزعات الطائفية لخلق إمبراطورية مصغرة في الشام، مع إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.

ومن السابق لأوانه معرفة إلى أين يمكن أن تذهب بنا هذه التوترات الإقليمية الجديدة.

ولكنْ هناك أمر واحد مؤكد في سعيهما للمواجهة، فإن كلا الجانبين يتصرف ضد تقاليد حسن الجوار التي تعود إلى بدايات القرن العشرين.

عبر التاريخ المتقلب للعلاقات الإيرانية مع جيرانها في القرن الماضي كانت العلاقات الإيرانية - التركية دائماً ما تعتبر استثناء من القاعدة. بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت الدولتان، اللتان أنهكتهما الحروب التي لا نهاية لها كلتاهما ضد الأخرى على مدى مائتي عام كاملة، قد أصبحتا إمبراطوريتين تعانين من الشيخوخة المتأخرة، وتترنحان من جراحات النضال ضد الاستعمار الأوروبي والإمبريالية الروسية التي فقدت كلتاهما بسببها أجزاء واسعة من الأراضي والأقاليم.

وفي نهاية عشرينات القرن الماضي، قررت تركيا الجديدة، تحت حكم مصطفى كمال أتاتورك، وإيران الجديدة تحت حكم رضا شاه بهلوي، تبديل عداوة الماضي إلى صداقة الحاضر والمستقبل من خلال صياغة ميثاق سعد آباد، لعدم الاعتداء والدفاع المشترك ضد الأعداء الخارجيين. ثم انضمت الدولتان فيما بعد إلى حلف بغداد الذي ضم أيضاً العراق المستقل حديثاً، ثم بعد خضوع العراق لنظام عسكري موال للسوفيات، تمت صياغة ميثاق المعاهدة المركزية، وهو الحلف العسكري الجديد الذي ضم باكستان وبريطانيا العظمى مع وجود الولايات المتحدة عضواً منتسباً.

وبحلول نهاية الخمسينات من القرن العشرين كانت العلاقات الإيرانية التركية في أفضل صورها، حيث كان السفير التركي يشعر في طهران وكأنه في إجازة طويلة، بينما كان نظيره الإيراني في أنقرة من الشخصيات البارزة التي ذهبت إلى هناك للتقاعد المريح.

حتى استيلاء الملالي على مقاليد السلطة في إيران في عام 1979 لم يسبب اهتزاز الأسس المتينة للعلاقات الإيرانية التركية القديمة. وفي حين أن أغلب الدول فرضت، أو أعادت فرض، تأشيرات الدخول على المواطنين الإيرانيين إلى أراضيها، أبقت تركيا أبوابها مفتوحة للزائرين واللاجئين من إيران. 

وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، كان ما يقرب من نصف المواطنين الإيرانيين البالغ عددهم ثمانية ملايين نسمة من الذين فروا من البلاد منذ وصول الملالي إلى السلطة في طهران، قد مروا عبر الأراضي التركية. وحتى اليوم، تستضيف تركيا أكثر من مليون مواطن إيراني من الذين يعيشون ويعملون هناك تحت وضعية غامضة بين اللاجئين والمقيمين المؤقتين. ومرة أخرى، ومنذ استيلاء الملالي على السلطة، كانت تركيا تعتبر الوجهة السياحية الأولى بالنسبة للوافدين الإيرانيين.

والأهم من ذلك، ربما، هي مساعدة تركيا إيران للتغلب على كثير من العقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية من قبل القوى الغربية، بسبب تورط إيران في دعم الإرهاب والتطوير المزعوم لبرامج الأسلحة النووية لديها.

ولقد ردت إيران الجميل من خلال مساعدة تركيا على إبقاء الأكراد المسببين للمشكلات تحت السيطرة، ومنع الأكراد العراقيين من تنفيذ الانفصال الكامل الذي من شأنه أن يسبب كثيراً من الاهتزازات في بقية المنطقة لدى الأقليات الكردية الأخرى.

وقبل بضعة أشهر فقط، كان بعض المراقبين الغربيين يتحدثون عن محور طهران - أنقرة - موسكو الجديد، الرامي إلى إعادة تشكيل وجه منطقة الشرق الأوسط التي تخلت عنها الولايات المتحدة تحت رئاسة باراك أوباما. ولم يصدق البعض منا أن تكون هناك فرصة سانحة لتكوين مثل هذا التحالف، حيث إن تركيا وإيران لديهما ما يكفي من الشكوك حيال روسيا التي يجمعهما معها تاريخ ملطخ بكثير من الدماء.

ومع ذلك، فإننا لم نكن نتوقع أن ينهار مثل هذا المحور قبل أن يتشكل بصورته الكاملة على أرض الواقع. ولقد حدث ذلك الآن بالفعل. ويبدو أنه، ومع رحيل الرئيس أوباما، قررت تركيا إعادة ربط العلاقات مع الحليف الأميركي القديم. فلقد أعلنت حكومة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان فرض عقوبات جديدة على روسيا، بما في ذلك فرض حظر على السفن القادمة من الموانئ الروسية في بحر آزوف، مما يحول روسيا إلى دولة غير ساحلية.

وفي الوقت نفسه، ومع رحيل الرئيس أوباما أيضاً، فإن احتمال تشكيل الولايات المتحدة تحالفاً جديداً مع طهران تحت مظلة الفصيل المعتدل من الملالي لم يعد أحد يأخذه على محمل الجد. فإدارة الرئيس ترمب الجديدة على استعداد كامل لإعادة تشكيل ملامح سياستها الخارجية الجديدة، ولكن من غير المرجح أن تعقد أي آمال تذكر على أن تغير طهران من سلوكياتها تحت مظلة الفصيل المعتدل الذي لم يكن سوى محض وهم كبير في مخيلة الرئيس الأسبق أوباما.

ومع احتمالات عودة الولايات المتحدة بوصفها دولة قومية كبيرة تسعى وراء تأمين مصالحها العالمية بدلاً من أن تكون مجرد محرك لأوهام أوباما الآيديولوجية، فإن القوة الأميركية قد تصبح، مرة أخرى، عاملاً رئيسياً في استقرار المنطقة المضطربة. وعلى الرغم من تصرفات الرئيس ترمب، فإن أنقرة يبدو أنها تعتقد أن الولايات المتحدة معنية بالعودة إلى منطقة الشرق الأوسط كقوة ذات بأس ونفوذ، وفي هذه الحالة فلن تكون هناك حاجة لدى تركيا لتكوين التحالفات المشبوهة مع العدو القديم مثل روسيا أو الأصدقاء المتقلبين مثل إيران.

والتفكير التركي الحالي يدور حول أنه بمجرد تحقيق إردوغان هدفه بفرض الدستور التركي الجديد من خلال الاستفتاء العام، فسوف يتحرك بكل حرية للبحث عن مكان مهم لتركيا في التجمع الإقليمي الجديد الذي قد يضم الولايات المتحدة وحلفاءها في منطقة الشرق الأوسط. ومع باكستان التي بدأت تعبر السياج المفروض عليها، فإن آفاق التحالف الموسع الذي يشمل «قوس الأزمة» من شبه القارة وحتى المحيط الأطلسي، قد أصبح أكثر جدية وأهمية عن ذي قبل.

وهذا الأمر قد يترك إيران في وضعية أكثر عزلة من أي وقت مضى وأكثر اعتماداً على روسيا وحسن نياتها. ومع ذلك، يدرك صناع السياسات الإيرانية أن الروس لن يقبلوا أبداً بإيران كشريك على قدم المساواة مع موسكو.

ومن خلال فرض السيطرة الحصرية على الملف السوري من خلال دعم وإسناد الرئيس بشار الأسد ونظامه الحاكم، تأمل روسيا في حرمان إيران من البطاقات التي تلعب بها في تلك الدولة العربية التي مزقتها الحرب الضروس.

وإذا، كما تعتقد أنقرة الآن، عادت أميركا إلى الشرق الأوسط في منصب قيادي ومؤثر، فإن أبعد ما يمكن أن تطمح إليه تركيا هو احتلال المرتبة الثانية أو الثالثة في شؤون المنطقة، مما يعني توديع أنقرة تماماً أحلام قيام الإمبراطورية العثمانية الجديدة التي تراود إردوغان الآن.

وإذا ما تمكنت روسيا من تأمين كرسي جانبي على الطاولة المفترضة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، فإن آخر شيء يرغب فيه بوتين هو تعلق أحد ملالي إيران المراوغين في ذيل معطفه.

وبعبارة أخرى، قد ينتهي الأمر بتركيا وإيران إلى تخريب العلاقات القديمة في مقابل المكافآت الضئيلة، بما في ذلك لعب دور التابع الأمين لأميركا أو لروسيا. يمكن لأحلام الإمبراطوريات أن ترجع بعواقب حقاً وخيمة، خصوصاً بالنسبة للاعبين الصغار الذين يتنافسون في لعبة خطيرة وقاتلة.