عبد المنعم سعيد

أخيراً انتهت العملية السياسية الخاصة بالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، بعد أن أبلغت تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطاني، الاتحاد، برغبة بلادها تطبيق المادة 50 من الميثاق، الخاصة برغبة أحد الأعضاء في الخروج. بعد ذلك بدأت عملية تفاوض يعرف الجميع أنها صعبة،

وفيها من الدبلوماسية قدر ما فيها من مفاوضات ذات شد وجذب ورغبة في تعظيم المكاسب وتقليل المخاطر. المؤكد أن طرفي المباراة كليهما لا توجد لديه سابقة تاريخية يُقاس عليها، فلا الاتحاد كان دولة موحدة فيدرالية فيكون الخروج منها انفصالاً، ولا كان تجمعاً أو منظمة إقليمية يكون الدخول فيها والخروج منها من اختصاصات السيادة. الاتحاد الأوروبي كان ولا يزال تجربة فريدة في التاريخ الإنساني، فهو أقل من دولة وأكثر من تحالف، وخلَق نوعاً من السيادة الجديدة على علاقات قامت بين 28 دولة على أساس من سوق مشتركة وحرية حركة لكل عناصر الإنتاج من بشر ومال وسلع وبضائع في سوق واسعة ممتدة من المحيط الأطلنطي غرباً، وحتى الحدود الروسية وبحر البلطيق شرقاً. ومن غرائب التاريخ أن بريطانيا التي رفضت أولاً فكرة التجمع الأوروبي، ثم قاومت ثانياً فكرة الانضمام إليه بعد إنشائه عام 1958، ثم تأخرت ثالثاً عن الانضمام إليه حتى 1973، بعد أن عملت رابعاً على إنشاء تنظيم إقليمي مناوئ تحت اسم المنطقة الأوروبية للتجارة الحرة، وبعد كل ذلك كانت هي الدولة التي صممت على أقصى درجات التوسع في بناء الاتحاد، بحيث ضمّ دولاً كثيرة في وسط وشرق أوروبا. ومن الغرائب أكثر أن بريطانيا التي نادت بالتوسُّع كانت دوماً مقاومة لتعميق الاتحاد، ومن ثم لم تنضَمّ للاتفاقية الأمنية الخاصة بالشينغن (الفيزا المشتركة)، كما لم تنضم لاتفاقية العملة المشتركة (اليورو)، ومن ثم للبنك المركزي الأوروبي.
ومع بدء عملية الطلاق التي سوف تستغرق عامين، فإن هناك نوعين من الأوهام تبددتا قبل أن تبدأ المفاوضات. الوهم الأول أن تجربة الاتحاد الأوروبي هي تجربة تاريخية، بمعنى أنها نوع من القدر الأوروبي الذي يعظم قدرات أوروبا ويجعلها مستمرة مركزاً للكون. فمنذ إنشاء الاتحاد في عام 1958، فإنه ظل خاضعاً لتجربة التوسع بانضمام بريطانيا ومن بعدها إسبانيا وآيرلندا والبرتغال، وبعد انتهاء الحرب الباردة دخلت الدول الإسكندنافية (ما عدا النرويج) ودول وسط وشرق أوروبا والبحر المتوسط. وقبل عامين فقط، فإن الفرضية الأساسية للعلاقات الدولية هي أن هناك نوعاً من القدر الذي يعني استمرار التوسع الأوروبي لكي يشمل دول البلقان، التي كانت تعد نفسها للانضمام، وكذلك تركيا التي دخلت في مفاوضات مفتوحة مع الاتحاد للانضمام في وقت ما. خروج بريطانيا كان أولى المحاولات للخروج التي عكست اتجاه التوسع، وجعلت احتمالات التفكك إمكانية مطروحة.
هنا فإن وهماً آخر تبدد، وهو أن الخروج البريطاني سوف يكون بداية لتفكيك أوروبا، لأنه لم يكن خروجاً لدولة عضو من اتحاد مشترك، وإنما كان تعبيراً عن نمو جديد للقومية التي أعادت أوروبا إلى أصولها القومية. والأكثر من ذلك أن الخروج البريطاني صاحبه نجاح دونالد ترمب في الولايات المتحدة حاملاً موقفاً مضاداً لحلف الأطلنطي، وأكثر من ذلك للاتحاد الأوروبي، وهكذا بدا أن الخروج البريطاني ما هو إلا نواة لخلق رابطة جديدة «أنجلوسكسونية» تقلل من شأن الرابطة الأوروبية الأطلنطية. وهكذا فإن نبوءة البعثرة الأوروبية الناجمة عن ثورة اليمين الأوروبي جعلت ذكريات الثلاثينات من القرن الماضي تعود مرة أخرى إلى الذاكرة الأوروبية. ولكن ما حدث فعلا أن «بريكسيت» (الخروج البريطاني) لم يلحقها عمليات خروج أخرى، ولم يعد «الدومينو» الأوروبي أكثر من خروج واحد، بينما تجمعت الدول الأوروبية على حماية الاتحاد تحت القيادة الفرنسية الألمانية من ناحية، ومواجهة اليمين القومي الأوروبي من ناحية أخرى، وهو ما حدث بعد ذلك في الانتخابات الهولندية، وتراجع مؤشرات نجاح هذا اليمين في دول أوروبية أخرى.
وهكذا لم تعد تجربة الاتحاد الأوروبي أبدية التوسع حتى تشمل القارة الأوروبية كلها، ولا هي تجربة عابرة لم تترك للدول الأوروبية من خيارات سوى العودة إلى الماضي. ما ثبت أن التجربة لا تزال مستمرة، وكما يحدث مع كل التجارب، فإنها تحتاج دوماً إلى الدعم والتفكير والتدبير ومراعاة التغيرات العالمية المستمرة. وفيما يبدو أن عملية الطلاق لن تكون سهلة فهي منذ البداية لدى الطرفين لم تكن مسألة سعيدة، فبالنسبة لبريطانيا فإن ما يقرب من نصف الشعب البريطاني لم يوافق عليها، كذلك فإن الخروج أيقظَ احتمالات انفصالية في أسكوتلندا وآيرلندا الشمالية التي صوتت ضد «بريكسيت». ومن ناحية الاتحاد فإن خروج الدولة الخامسة في الاقتصاد العالمي يشكل خسارة غير قليلة خصوصاً مع تشابك الاقتصاد البريطاني مع الاقتصادات الأوروبية الأخرى. ولكن كما هو الحال في كل حالات الطلاق، فإن طرفي العلاقة يسعيان إلى تعظيم مكاسبهما والتقليل من خسائرهما من كسر العلاقة. بريطانيا من جانبها تريد أن تخرج من الاتحاد، وهي تقلل من إنفاقها عليه، إلى جانب أن تبقي على مكاسبها من حرية التجارة، بمعنى أن بريطانيا تريد تغيير طبيعة الاتحاد إلى منطقة للتجارة الحرة معها. ولكن أنجيلا ميركل لم تبقَ في موقعها كل هذه السنوات، إلا لأنها وقد أصبحت سيدة أوروبا دون منازع، فإنها لن تسمح لبريطانيا بأن تحصل على «الكعكة»، وتأكلها في الوقت ذاته. لذا فإنها طلبت من مفاوضي الاتحاد الفصل بين عملية الطلاق والانفصال البريطاني، والمفاوضات التجارية، فهذه الأخيرة تكون في مرحلة تالية للأولى. لدى بريطانيا فإن فرصها أعظم في التزامن في العمليتين، أما الاتحاد، فتكون الفائدة في التتابع لأن الاتحاد ساعتها سوف يكون قوة عظمى في مواجهة دولة وحيدة.
أياً كانت طبيعة ونتائج المفاوضات فإن الطلاق البريطاني من أوروبا لن يكون حادثاً فريداً حتى ولو بقِيَت أوروبا على حالها، فهو سيعطي الإيحاء بالضعف الأوروبي تجاه روسيا من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى. الأولى سوف تجد فرصة جديدة للضغط على الجناح الشرقي لأوروبا، الذي كان يوماً ما جزءاً من إمبراطورية روسية واسعة، ومن ثم فإن الضغط الذي يجري على أوكرانيا ربما يتزايد. والثانية سوف تجد فرصة أخرى لخلق تحالف خاص أنجلوسكسوني يضم الولايات المتحدة مع بريطانيا وأستراليا وكندا (وهو تحالف خالص قائم فعلاً على مستوى المخابرات والمعلومات وأنواع أخرى من التنسيق خارج نطاق حلف الأطلسي). العالم هكذا لا يبدو أنه سوف يسير على حاله، وإنما يبدو أن الطلاق داخل القارة الأوروبية لن يكون هو المقدمة لحياة جديدة للطرفين، كما يحدث في حالات الطلاق، وإنما بداية لتفاعلات جديدة على المستوى الكوني، وما كان في وقت ما من الأمور المستحيلة، ربما يكون قريباً أكثر مما نتخيل. تعالوا ننتظر المفاوضات، وربما أكثر منها كيف سيكون التفاعل بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين؟!. .