أحمد عبدالمعطي حجازي

 لماذا تراجعت الدعوة لتجديد الخطاب الديني وخفتت أصوات الداعين في هذه الأيام الأخيرة، بعد أن ارتفعت في أعقاب ثورة يونيو، التي أسقطت سلطة الإخوان، وبدا كأن تجديد الخطاب الديني أصبح مطلباً يومياً وشعاراً من شعارات الثورة الشعبية، التي انحاز لها الجيش، ممثلاً في الفريق عبد الفتاح السيسي، الذي تبني الشعار.

وظل يطالب علماء الأزهر في كل لقاء معهم بتجديد الخطاب الديني، وأحياناً بثورة دينية تتجاوز الإصلاح والتعديل، إلى الإضافة والتأسيس لخطاب جديد ينبع من هذا العصر ويلبي حاجاته، وهو موقف مفهوم من رجل عسكري أصبح رئيساً للدولة.

لقد استطاع المصريون في يونيو أن يسقطوا الدولة الدينية، التي أراد الإخوان والسلفيون وحلفاؤهم في الداخل والخارج أن يعيدوا إحياءها، ويقيموها من جديد في مصر، على أنقاض الدولة الوطنية التي بنيناها خلال القرنين الماضيين، اللذين حاولنا فيهما أن نخرج من ظلمات العصور الوسطى.

وأن ننشئ دولة حديثة نستعيد بها استقلالنا الذي فقدناه وحرمنا منه ألفي عام، خضعنا خلالها لحكم الغزاة الأجانب الذين احتلوا بلادنا.

لأننا كنا محرومين في تلك العصور المظلمة من أن نحكم أنفسنا، كنا محرومين في الوقت ذاته من حمل السلاح، ومن هنا، فقدنا حقنا في بناء جيش وطني، حين فقدنا حقنا في بناء دولة وطنية، ومن هنا، نجحنا في استعادة الحقين معاً خلال القرنين الماضيين، اللذين استطعنا فيهما أن نتحرر خطوة بعد خطوة من الغزاة والمحتلين الأتراك والأوروبيين.

محمد علي، الذي قدر له أن يقودنا في هذا الطريق، لم ينجح فقط في الخروج بمصر من الهيمنة التركية لتستعيد استقلالها، بل نجح أيضاً في بناء جيش وطني حديث، عدنا فيه لحمل السلاح، واستطعنا به أن نسيطر على كل ما حولنا.

من الطبيعي إذن أن يكون شعار ثورة يونيو، هو تجديد الخطاب الديني، لأن الخطاب الموروث من الدول الدينية التي خضعنا لها، لا مكان له في الدولة الوطنية، ومن الطبيعي كذلك أن تتبنى القوات المسلحة المصرية هذا الشعار، وتطالب بتجديد الفكر الديني، لأن وجود القوات المسلحة، مشروط بوجود الدولة الوطنية، التي قامت على أنقاض الدولة الدينية، أي على أنقاض الخطاب الديني القديم.

وهناك من لا ينتبهون لهذه العلاقة التي تربط هذه الأطراف بعضها ببعض، وتجعل تجديد الخطاب الديني شرطاً لقيام الدولة الوطنية بأسسها وأركانها المختلفة، والأساس الأول، هو فصل الدين عن الدولة، لأن الدين علاقة بين الإنسان الفرد وربه، أما الدولة، فهي كيان جامع، يضم كل أفراد الجماعة الوطنية على اختلاف أديانهم وعقائدهم.

والأساس أو الركن الآخر للدولة الوطنية، هو الديمقراطية، التي تتجسد بها الرابطة الوطنية، وتصبح حياة مشتركة تجمع بين كل المنتمين للوطن، وتجعلهم المصدر الوحيد لكل السلطات، وتسلم لهم بحقهم المقدس في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم.

وعلى هذا الأساس، تنبني كل مؤسسات الدولة، وتتشكل وتكتسب شرعيتها، وفي مقدمها الجيش، الذي ينهض بالدفاع عن أرض الوطن وحماية الاستقلال، فإذا كان المصريون قد خطوا خطواتهم الأولى نحو الدولة الوطنية منذ قرنين، أي منذ بدايات القرن التاسع عشر.

فقد أدركوا منذ ذلك الوقت، أن الخطاب الديني القديم لم يعد صالحاً لهم، ولم يعد يلبي مطالبهم أو يجيب عن أسئلتهم، وأنهم في أشد الحاجة لخطاب ديني جديد، يكون عوناً لهم في معركتهم التي خاضوها على كل الجبهات، في الداخل والخارج، مع غيرهم ومع أنفسهم، ومع ماضيهم وحاضرهم.

كنا نطالب بتجديد هذا الخطاب، ولا نزال نطالب بتجديده، لأننا في حاجة للدين الذي أعطيناه من أرواحنا وطاقاتنا كما أعطانا، فهو ركن من أركان وجودنا في هذه الدنيا، التي نحتاج إليها بالقدر ذاته، فلا بد من خطاب ديني يعطي ما للدين للدين، وما للدنيا للدنيا.

لا بد من خطاب ديني جديد، يميز بين العقائد الثابتة والقيم الإنسانية المتفق عليها، وبين الحياة التي تتطور وتتغير وتكشف لنا كل يوم عن جديد، نحتاج معه لفكر جديد وخطاب جديد، يتفق مع روح العصر الذي نعيش فيه، ويلبي مطالبه التي لا يمكن أن تتناقض مع روح الدين.

الحرية لا تتناقض مع روح الدين. حرية الوطن، وحرية المواطن الفرد، وحرية المواطنين مجتمعين.

والعقلانية لا تتناقض مع روح الدين، لأن العقلانية هي الاحتكام للعقل الذي منحنا الله إياه، وكرمنا به، لنميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وهذا هو ما نطلبه في الدين ونحتكم له فيه.

والمساواة لا تتناقض مع الدين، والعدالة لا تتناقض مع الدين، والأخوة البشرية لا تتناقض مع الدين، وتلك هي القيم التي نريد أن نحييها ونجسدها في هذا العصر، بما نبنيه من مؤسسات، وبما نضعه من قوانين تلبي مطالبنا، وتمثل شخصيتنا، وتضمن لنا التقدم والرخاء.

تجديد الخطاب الديني إذن، لا يلبي حاجاتنا الدنيوية وحدها، بل يلبي معها حاجاتنا الدينية التي لا نستطيع أن نلبيها على الوجه الصحيح إذا لم تتسع حياتنا لهذه القيم، أو كانت فيها منبوذة مضطهدة.

والسؤال من جديد: لماذا تراجعت الدعوة لتجديد الخطاب الديني؟، ولماذا خفتت أصوات الداعين لتجديده في هذه الأيام؟!