أحمد عبد الملك

شاهدتُ مقطعاً تلفزيونياً لرجل عربي يتحدث عن الأسباب التي جعلت بعض دول آسيا ناهضة وقوية، وذات اقتصاد ثابت وإنتاجية مثيرة، ويقارنها بالدول العربية، وهو في حالة استياء ويأس مما وصلت إليه الأمور في هذه الدول. ومما قاله: إننا في عام 1960 كنا أفضل من كوريا الجنوبية، وفي عام 1970 كنا أفضل من سنغافورة، وفي عام 1980 كنا أفضل من ماليزيا، وفي عام 2000 كنا أفضل من تركيا. وعزا تطور تلك الدول إلى سبب واحد هو «وضع الرجل المناسب في المكان المناسب»! وقال: «إذا لم نغيّر أساليب حياتنا وإدارتنا فنسير نحو السقوط والانهيار».

وإذا ما أردنا توضيح التجربة الماليزية التي قادها مهاتير محمد، رئيس وزرائها السابق، فسنقول إنه حوّل تلك الدولة الفقيرة والمتخلفة إلى (نمر) يضاهي النمر الياباني. وكانت فلسفة الرجل تقوم على التحول من الاعتماد على الزراعة إلى الصناعة، وإيجاد التناغم السكاني بين 24 مليون شخص، بكل خلافاتهم العرقية (الملايو 58%، الصينيون 24%، الهنود 7%)، وقد استفاد من التجربة اليابانية إلى حد كبير، وأصبحت اليابان من الداعمين الأساسيين لماليزيا. واعتمدت سياسة مهاتير محمد على تدريب الشباب وإدخال التكنولوجيا الجديدة، فوفّر للماليزيين أدوات تقنية حديثة، فانخفض عدد من هم تحت خط الفقر من 52% عام 1970 إلى 5% عام 2002، وارتفع متوسط دخل الفرد من 1247 دولار عام 1970 إلى 8862 دولار عام 2002. كما اهتم بتحديث التعليم والتدريب العملي والصناعي، فتم ربط الفصول الدراسية بشبكة الإنترنت التي أصبحت 90% من المدارس تستخدمها في عام 1999، وتم تخصيص 21.7% من إجمالي الإنفاق للتعليم.

أما بالنسبة لسنغافورة، فقد أعلن رئيس وزرائها «لي كوان يو»، في أول خطاب له بعد الاستقلال، أن دولته ستعتمد مبادئ الحرية والعدالة، وتسعى لخير شعبها وسعادته ولإقامة مجتمع أكثر عدالة ومساواة. ثم أنشأ هيئة للتنمية الاقتصادية، واستطاع جذب الاستثمارات إلى بلده الصغير الذي استقل عن دول الكومنولث عام 1963، وأنشأ أهم مصافي البترول في العالم، وصارت سنغافورة ثالث دولة في تكرير البترول بعد مصافي نوتردام وهيوستن، كما أصبحت من أكبر منتجي البتروكيماويات في العالم. وكان من أهم عبارات الزعيم السنغافوري: «الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت فيه عندما استلمت الحكم في دولة فقيرة جداً، واهتممت بالاقتصاد أكثر من السياسة، وبالتعليم أكثر من نظام الحكم».

بودي لو قرأ المخططون والمستشارون الذين يحيطون بالقادة العرب التجربتين الماليزية والسنغافورية! فحتماً سوف يجدون مخارج ناجعة للمعضلات التي كبّلت العالم العربي وجعلته في ذيل قائمة الإنتاج والعدالة والمشاركة والديمقراطية. وفي هذا العالم ثروات هائلة، قد لا تصلها ثروات ماليزيا أو سنغافورة، لكن حسن اختيار الأفراد وقادة المجتمع هي التي أهّلت الدولتين المذكورتين، تماماً كما كان إصرار قائديهما على تحقيق الإنجازات وخدمة الشعب بإيمان وتفكير سليم. الأمر الذي يختلف عنه في العالم العربي، الذي تسكنه البيروقراطية والطائفية والقبلية.

العالم العربي يرزح تحت وطأة الاحتراب المجتمعي، وهذا يشق الصف الوطني.. والعالم العربي تسكنه «الحاشية» غير المخلصة لأوطانها.. والعالم العربي لا يطبق مبدأ «الرجل المناسب في المكان المناسب»، وهذا سبب رئيس للتخلف والجهل في كثير من بلدانه.

إن غياب العدالة والديمقراطية من الأسباب الرئيسة لعدم قبول الأفكار الجديدة، كما أن تجارب التعليم العربية كانت مريرة، رغم أن النظام التعليمي في بعض البلدان العربية كان أسبق من نظيره في سنغافورة وماليزيا!

أتمنى أن يقرأ المخططون والقادة كتاب مهاتير محمد «المستقبل المسروق»، يتضح لهم أن كل ما يقوله هؤلاء المخططون والمستشارون هو بعيد من الحقيقة وعن مصالح الشعوب!

ينبغي أن يعترف العرب بأنهم في مأزق إداري لن تكفي لتغطيته الأموال، ومأزق أخلاقي لن ينفع في رفعه الإعلام الدعائي!.. وأن كثيراً من شعوبهم تسأل: إلى متى سوف نظل نتأخر بينما تتقدم الشعوب الأخرى!؟