تركي الدخيل

منذ أن تولّى ترمب سدة الرئاسة بالولايات المتحدة، والعالم يراقب سلوك الرئيس الجديد المثير للجدل، وبرغم عدم الجدية الذي قوبل به من نجوم السينما، ومعلقي الشاشات، ومحللي السياسات، فإنه أثبت يوماً بعد يوم أنه رجل قوي، وضمن إدارة قوية، ويدير الملفات الشائكة بعمقٍ سياسي لافت، والأهم من ذلك عودته إلى القيم الأميركية الكلاسيكية.


حين وقعت الضربة الأميركية على مطار الشعيرات، انبعث قاموس أميركا الطبيعي، كالحفاظ على الأمن القومي، ومصالح أميركا الاستراتيجية، والدفاع عن المجتمعات ضد الطغاة... وسياسة «التدخل» جزء من سياسة أميركا، أن تحمي مصالح الولايات المتحدة، أو تتدخل للحفاظ على الأمن العالمي، فهي الأقدر على ضبط الإيقاع السياسي، لما تملكه من قوة، ولما تتمتع به من قيم.
كان التدخل الأميركي في منتصف القرن العشرين، يقوم على حماية الدول الحليفة ضد أي مد شيوعي، ومعروف خطاب أيزنهاور عام 1957 حين حذّر من تعرض الدول الحليفة بالشرق الأوسط، لأي عدوانٍ شيوعي، وتعهد باستعمال القوات المسلحة بشكلٍ مباشر بغية صد أي عدوان، وقد تدخّلت القوات الأميركية في لبنان عام 1958 من أجل تخفيف التوتر، في ظلّ ذلك الزخم لمبادئ أيزنهاور التاريخية، والدفاعية، والمباشرة، زار الملك السعودي الراحل سعود بن عبد العزيز، واشنطن في 30 يونيو (حزيران) 1957. يحلل الزيارة المؤرخ الفرنسي (جاك بونوا ميشان) في كتابه «الملك سعود - الشرق في زمن التحولات» معتبراً أنها جاءت بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر، الذي نجم عنه «أفول السيطرة البريطانية على سياسات المنطقة، وحليفتها فرنسا التي بدأت تواجه الثورة الجزائرية، وبدأ الاتحاد السوفياتي بدعم الأقطار العربية». كان البحث يتعلّق بموضوع «سد الفراغ» في المنطقة خصوصاً مع الزحف السوفياتي الموبوء، وتشجيعه لأطرافٍ على حساب أخرى، وكان من ضمن نتائج الزيارة التعهد بالدفاع الأميركي عن المصالح والحلفاء، وهكذا أثمرت المبادئ تدخل أميركا المثمر، لتحرير الكويت عام 1990.
تدخل أميركا في لبنان، أو البوسنة، وكوسوفو، وأفغانستان، وليبيا، واليمن، وسوريا ضروري من أجل إحلال السلام. لقد تميزت الخارجية الأميركية في أوقات الذروة السياسية، بأنها المتدخلة دائماً بالحرب من أجل صناعة السلام، أمطرت أميركا ميلوسوفيتش بالطائرات، وأرسلت المدافع الثقيلة، وفي الوقت نفسه أعطته توقيت الجلوس إلى الطاولة، وأُرغم على اتفاق «دايتون» في 14 ديسمبر (كانون الأول) 1995. لهذا نادى كبار الاستراتيجيين بالولايات المتحدة، بأن تستعيد أميركا تجربة اتفاق «دايتون»؛ الحرب على مفاصل النظام، ومنعه من التحرك بسهولة، وسحق قوته حتى ينصاع إلى الطاولة، ويأتي إلى اتفاق سياسي موضوعي، تنتهي فيه مأساة أمة، وشعب، ودولة.
خُلِّدت أسماء رؤساء أميركيين، لأنهم تدخلوا في الوقت المناسب، من أجل الحفاظ على مصالحهم وتمتين قوة حلفائهم، ففي بداية الحرب العالمية الثانية لم يكن روزفلت يرغب في التدخل، غير أن إصابة فرنسا وبريطانيا الحليفتين للولايات المتحدة، بمقتل، جعلته يدعم الدولتين بالسفن والعتاد، وحين قتل أكثر من ألفي أميركي، أعلن روزفلت دخول الولايات المتحدة الحرب، كانت أغلبية الأميركيين ضد التدخل «المغامر»، غير أنه من أنجح القرارات، التي اتخذها رئيس أميركي على الإطلاق، إذ شقّ الحلفاء طريقهم الممهدة إلى النصر، وتغير وجه العالم.
ضربة ترمب بغض النظر عن مستواها وتأثيرها، أو إمكانية تكرارها، إلا أن الأهم أننا شهدنا تغيراً في السلوك الأميركي بالتعاطي مع الأزمات الدولية، والنكبات الإنسانية، والأنظمة الشمولية الديكتاتورية، ولن يكون بوسع إيران العبث كما تشاء في المنطقة، كما في سنين أوباما العجاف، ولن يكون النظام السوري بمنأى عن المحاسبة، ولن يفلت الرئيس السوري من جرائمه عاجلاً أم آجلاً، ذلك أن أميركا المعتادة والطبيعية قد عادت. هذه هي أميركا، ولطالما ردد ترمب ومقربوه «زمن أوباما انتهى».. .