محمد الرميحي

 رغم شغفي بأعمال الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي، وهو شاعر لا يشق له غبار، فإن قليلين من يعرفون أنه أيضاً من أوائل مَن كَتَب في «علم الاجتماع السياسي»! فقد قال:


كلما أَنبَتَ الزمانُ قناةً
ركَّبَ المرء في القناة سنانا
والقناة من بين معانيها: «كل عصا مستوية أو معوجة»، والسنان من بعض معانيه «نصل الرمح»... المعنى واضح: كلما حدث شيء في هذا الكون، يركِّب الناس له نصلاً، ويفسرونه بمقدار مستوى وعيهم ورغباتهم وأهوائهم، وقد يأتي التفسير متناقضاً بل ومتضاربًا؟ ذلك ما حدث في أعقاب «الضربة» الأميركية لمطار الشعيرات في حمص! تركيب السنان كان متعدداً ومتناقضاً، البعض أشار إلى أن العملية «اعتداء صارخ على سيادة سوريا»! وبعضهم ادعى أن العملية كلها ادعاء، لأن النظام السوري لا يمكن أن يستخدم الكيماوي ضد شعبه، وآخرون وجدوا فيها «مجرد تبرئة ذمة» من قِبَل الإدارة الأميركية الجديدة، لأنها ترغب في إرسال رسالة إلى الداخل الأميركي بأنها غير متفقة مع الروس (شبح يطارد الإدارة منذ وصولها إلى البيت الأبيض)، وآخرون ذهبوا إلى القول إن الضربة كان قد علم بها الروس، وبالتأكيد بلَّغوا نظام الأسد، الذي فرَّغ بدوره القاعدة من كل ثمين وعزيز، بل إن «سنان» مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة كان الأكثر شذوذاً، فقد قال (لا فُضّ فوه) إن «قوى المعارضة» كانت تعلم مقدماً بالضربة، وبالضبط «قبل سبع ساعات من وقوعها»!
أتصوَّر أن أبا الطيب المتنبي (رحمه الله) يضحك في قبره، يقول: ألم أقل لكم إن «الناس الذين أعرفهم» سوف يظلون في كل زمان يُركِّبون على أي قناة تُنبَت سناناً يناسِب تصوراتهم، ما يهمني هنا أن «الضربة» قد تمَّت، وإن كانت نهاياتها المؤقتة هي «التوماهوك»، فإن بدايتها ذلك التذبذب في تصريحات الإدارة الأميركية الجديدة، فقبل أيام فقط قيل على لسان أكثر من مسؤول فيها، إن الأولوية ليست لإزاحة الأسد، ولكن لهزيمة «داعش»!
ذلك كان موسيقى في أُذُن متخذي القرار في سوريا، قالوا إن الأميركيين كسابقيهم، يقولون أشياء مريحة. إذن أرواح السوريين يمكن أن تكون أرخص؛ فبدلاً من قتل عشرة ببراميل متفجرة، نقتل خمسين بغاز الأعصاب، كما فعلنا في شرق الغوطة، في أغسطس (آب) 2013! الأمر كله قتل في قتل، والفروق هي في العدد... ذلك كان لسان حال السيد بشار الأسد، لأنه منذ وعيه الصغير شاهد في كل عطفة وشارع وزقاق شعاراً يقول: «الأسد إلى الأبد»؛ فلماذا يتجرأ البعض ويقولون إن «الأسد ليس إلى الأبد»؟!
آخرون من حملوا أشياء تشبه «السنان»؛ بعض القوى العربية التي تدعي أنها سياسية... بيان «المؤتمرات الثلاثة» الذي نُشِر على وسائل التواصل الاجتماعي (القومي، والقومي الإسلامي، والمؤتمر العام للأحزاب القومية) أحسَب، مع الاحترام للجميع، أن كاتبه شخص واحد، أرعد في البيان وأزبد... ذلك من حقه، ولكن لماذا لا يرعد ويزبد على مئات الآلاف من القتلى السوريين بالبراميل المتفجرة؟! أو ملايين المهجَّرين، أو من ابتلعهم البحر من أطفال ونساء؟! لو ضم هذا إلى ذاك، لأصبح في الرأس عقل، أما أن تُسَلَّ سيوف الكلام مناصرةً لحزب طهران وموسكو والتباكي على سيادة سوريا، التي انتهت منذ أعوام، فدليل آخر على صحة قهقهة المتنبي وسخريته من عقول كهذه.
بعض الدول تفرِّق بين قتل النظام السوري للمواطنين بغاز الأعصاب الذي هو جريمة لا تُغتَفَر، وقتلهم بالبراميل، وهي مسألة فيها نظر! سواء كان ذلك بالطيران السوري أو الروسي أو ميليشيات إيران أو أموال الخزانة في طهران! وذلك يقع في إطار الكيل بمكيالين!
كل تلك المواقف والتصريحات والإدانة المغلَّظة لما فعلته الإدارة الأميركية، تنم عن تفكير أعوج، فتلك الإدانة لا ترى أن النظام السوري لا يريد وليس مستعداً لأن يتراجع حتى خطوة واحدة في طريق الحل السياسي، مهما قدمت قوى المعارضة من تنازلات في «آستانة» أو «جنيف»، هو يريد «حلاً سياسياً» خالياً من المعارضين، يريد أن يحقق الشعار الأجوف «الأسد إلى الأبد»!
لقد وجد النظام السوري في الإرهاب ضالته، وهو جزئياً مَن صنعه ورعاه، بل هو أعظم وأحسن من حقَّقَ «إرهاب الدولة»، ولكنه تحت ذلك الغطاء، محاربة الإرهاب، يُرهِب الآخرين والعالم، ويقرأ الأمور كما يتخيلها.
من الخطأ مخاطَبَة النظام السوري، لأنه فاقد الموضوعية، على أقل تقدير. سمعتُ أحدَهم يدافع عنه بقوله: كيف لم يستخدم النظام الأسلحة الكيماوية عندما كان متراجعاً، وهو الآن متقدم؛ فما الحاجة إلى أن يفعل ذلك؟! تلك المصفوفة من الأعذار والتبريرات يطلقها المقرَّبون من النظام ظناً أن من يستمع إليهم «أبلَه»، القضية ملاءمات... اعتقَدَ النظام في وقت ما أن مسيرة اللامبالاة مستمرة، فأقدم على ما أقدم عليه؛ «إرهاب» منقطع النظير ومفضوح!
بيت القصيد أن هناك حقائق لا بد من تأكيدها؛ الأولى هي: هل الضربة جزء من استراتيجية مُعدَّة، أم هي حلول ترقيعية ووقتية؟ وهل سنرى استراتيجية تُسمى «ما بعد الشعيرات»؟ إذ إن المراهنة على «إقناع الأسد» بحل سياسي هي مراهنة خاسرة. سوف يظل هذه النظام يخلق الأعذار والمسببات ليرهق مَن حوله، ويرهق الشعب السوري، ثم إن المراهنة على «الملاذات الآمنة» أيضاً مراهنة مُخِلَّة، بل يبدو أنها سقطت من الأجندة، هي قد تصبّ في مصلحة النظام، فتسهل له «إجلاء بعض مكونات الطيف السوري» إلى مكان يعزلهم فيه، وتبقى لديه «سوريا المفيدة» بمكوناتها الجديدة، فقد قال بشار في خطاب مشهور: «ليس السوري مَن يحمل الجنسية السورية، السوري هو مَن يحمل السلاح معنا»، أي الأفغاني والإيراني والعراقي وحزب الله!
أعرف ويعرف غيري أن العالم كله ليس مبادئ أخلاقية، ولكن على الأقل هناك من يحمل حتى الآن بعض المبادئ الإنسانية... أكثر من ست سنوات طوال حرب التصفية، لم تبقَ بعدها قرية أو منزل أو أسرة في سوريا إلا وأصابها العطب، والقانون الدولي الذي سُنَّ بعد حروب مهلكة لا يمكن أن يقف مكتوف اليدين أمام هذه المجازر اليومية، بالغاز أو دونه، ودون استراتيجية واضحة إقليمية ودولية تدين المستبد الفاجر بشعبه، وتُعلِي القيم الإنسانية. يمكن بكل تأكيد تكرار قتل السوريين، وربما غيرهم ببراميل الغاز السام، ولكنّ هناك ضوءاً يلوح في الأفق نرجو أن يكون هو نهاية النفق المظلم للسوريين، فقد تكون خان شيخون هي الصاعق الذي يفجِّر وينهي طريق الألم، فالمتنبي في انتظار البيان رقم 1.
آخر الكلام:
في عيد السعف يضرب من جديد الإرهاب في مصر، وفي يوم سعيد للإخوة المسيحيين. الهدف واضح للعيان؛ ضرب الوحدة الوطنية المصرية. لن أستغرب استخدام مقولة المتنبي في تفسير ما حدث في مصر، لأن المناعة الفكرية ما زالت ضعيفة لدى كثيرين!.