طلال صالح بنان

الإدانة على مستوى حركة وقيم السياسة الدولية، هي: موقف قانوني وأخلاقي وسياسي تجاه فعلٍ مُجَرَّمٍ من قبل مجتمع الأمم ومؤسسات النظام الدولي القائم في حقبة تاريخية معينة. الإدانة لا تكون فعالة ولا مؤثرة، إلا إذا ارتبطت بإرادة سياسية قادرة على أخذ تدابير رادعة، مع استعداد ماضٍ لتحمل تكلفة المضي في تفعيلها، حيث يمكن عندها الإشارة إلى أنها: سياسة خارجية متبعة وملزمة أخلاقياً وسياسياً وقانونياً للطرف الدولي أو الأطراف الدولية، التي تبنتها وأعلنتها.

الإدانة إذن: من الناحية السياسية، تكون فاعلة وأداة ردع ماضية، لو تبنتها قوة دولية عظمى تمتلك أدوات الردع المؤثرة، والإرادة لاستخدامها لتنفيذ التزاماتها السياسية والقانونية والأخلاقية، لمواجهة سلوكٍ مُجَرَّمٍ ارتكبه طرفٌ دوليٌ مارقٌ، ربما يكون مستنداً لدعم قوة عظمى.. غير ما تكون الإدانة صدرت بصورة جماعية تتشتت مسؤولية تنفيذها ودفع تكلفة المضي فيها بين مجموعة من الدول.

هذا هو الفرق بين الإدانة السياسية الملزمة والفاعلة ذات المصداقية وترتفع فيها احتمالات الأخذ بتفعيلها.. والإدانة القانونية والأخلاقية، التي تفتقر لإجراءات ردع حقيقية وفعالة تتشتت مسؤولية تنفيذها بين قوىً ربما لا تتفق في ما بينها حول أسلوب تفعيلها.. أو المشاركة في دفع تكلفتها، مثل صيغ الإدانة التقليدية، التي تصدر عادةً، من مجلس الأمن.

هذا التفريق بين الإدانة السياسية والقانونية، يساعد في تحليل السياسة الخارجية لكلٍ من الولايات المتّحدة وروسيا الاتحادية تجاه ما يحدث في سورية. موسكو تعتمد على نموذج الإدانة القانونية، بالعمل على تعطيلها، باستبداد استخدامها الأرعن لحق النقض «الفيتو» لحماية نظام الأسد من مسؤولية التنكيل بشعبه، لدرجة الاستخدام الوحشي لأسلحة غير تقليدية مُجَرّمٍ استعمالها دولياً.

من هنا يصعب -إن لم يكن من المستحيل- صدور قرار ملزم من مجلس الأمن يحمل إدانة واضحة للسلوك الإجرامي للنظام في سورية، يسمح من الناحية القانونية بإجراء جماعي للمجتمع الدولي بالتصدي له.. أو -إن لم يتسنَّ ذلك- يُترك الأمر للأطراف الدولية، التي تدفعها مصالحها الوطنية أو أمنها القومي، لتفعيل الإدانة القانونية. «الفيتو» الروسي، وربما الصيني، في هذه الحالة يحول دون تفعيل الإدانة القانونية هذه.

لم يواجه نظام الأسد، ولا حتى حُمَاتُهُ الدوليون والإقليميون بتحدٍ حقيقيٍ لسلوكهم وسياستهم المُجَرَّمَةِ أممياً، التي تحتاج لغطاء قانوني لمواجهتها، مثل ما حدث أخيراً، من تطور في الموقف الأمريكي تجاه ما يحدث في سوريّة. الولايات المتحدة بضربتها الصاروخية الأخيرة للنظام السوري، رغم رمزيتها ومحدوديتها.. وقولها صراحةً: إن تلك الضربة الصاروخية جاءت رد فعل، لما ثبت لديها من استخدام طيران الأسد للأسلحة الكيميائية، في غارة جوية على بلدة خان شيخون بريف إدلب، إنما تعلن عن سياسة خارجية جديدة تَجُبُّ ما اتبعته واشنطن سابقاً من سلوك يتصف باللا مبالاة والخشية من تورط عسكري في سورية، بل وحتى الأخذ بإمكانية أن يكون نظام الأسد ضمن أية تسوية سياسية محتملة هناك. هذه السياسة الخارجية الجديدة لواشنطن، حول الأزمة السورية، تحمل في طياتها التزامات سياسية وأخلاقية تتطلب حشداً لموارد وطنية، حتى تحقيق الهدف منها، يصعب على واشنطن النكوص أو التراجع عنها، دون تكلفة باهظة من هيبتها الكونية، بل وحتى شرعية الحكومة الأمريكية نفسها، داخلياً.

زاد من احتمالات مضي الولايات المتحدة في سياستها الجديدة، المناقضة كلياً لما اتبعته منذ نشوب الأزمة السورية من خمس سنوات، الحملة الدبلوماسية والإعلامية الشرسة التي تشنها واشنطن ضد نظام الأسد، بل والأسد شخصياً، التي وصلت إلى شن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب نفسه، هجوماً على سلوك النظام السوري الإجرامي، يحمل في طياته نبرة رادعة غير مسبوقة، تتجاوز احتمالات عودة نظام الأسد لاستخدام الأسلحة الكيمائية، إلى التهديد بردود فعل انتقامية، إذا ما استمر في استخدام سلاحه الجوي ضد المدنيين. بل إن هجوم الرئيس الأمريكي طال شخص الأسد، ونزع منه صفته الإنسانية، مما يستبعد تماماً احتمالات القبول به في أية صيغة لتسوية سلمية في سورية يكون هو أو نظامه أطرافاً فيها.

لا شك أن هذا التحول في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الأزمة السورية، سيواجه بتحدٍ حقيقيٍ من روسيا، التي لطالما اتبعت في سياستها على مسرح الأزمة السورية منهج الإدانة القانونية لتعطيل أي محاولة لتفعيل خيار الإدانة السياسية، الأكثر جرأةً وحسماً، الذي تبنته وأعلنته مؤخراً إدارة الرئيس دونالد ترمب.

لم تقترب الحرب المستعرة في سورية من نهاية عملية لها، مهما كانت صورة تلك النهاية وما تتمخض عنه، اقترابها من حدوث هذا التطور غير المتوقع الأخير في السياسة الخارجية الأمريكية، الذي شهد بدايته الفعلية بالضربة الصاروخية الأخيرة، وما تبع ذلك من حملة دبلوماسية وإعلامية أمريكية، ضد نظام الأسد.. ومن يدعمه من القوى الدولية والإقليمية.