كمال الذيب 

 دعونا في البداية نؤكد بأن الديمقراطية تتعارض في جوهرها مع غلق الفضاء السياسي العام، وأن الديمقراطية من دون معارضة سياسية ديمقراطية رشيدة وعقلانية لا قيمة لها، ولا أفق. وأنها من دون حرية تبقى كسيحة.

نقول ذلك من دون مواربة، او مزايدة، لأن هذه العناصر هي من بين أهم ابجديات المجتمع الديمقراطي، وإذا كان ذلك صحيحا فإن التجربة الديمقراطية الوليدة في البحرين لكن علينا أيضا قد قامت على مثل هذه الأسس اللازمة للتقدم نحو الديمقراطية، ولو بشكل تدريجي، استنادا إلى اجماع وطني على الثوابت، بما في ذلك هوية البلد واستقلاله ونظامه السياسي الدستوري، وتأطير ذلك كله بسياج قانوني واضح (قانون مباشرة الحقوق السياسية-قانون الجمعيات السياسية..).. مما أتاح مجالا واسعا للعمل السياسي المنظم والحر، مع مساحة مهمة من الحرية السياسية والإعلامية.

هذه حقيقة لا مبالغة فيها، ولا مزايدة عليها، لمن يريد أن يقيم التجربة بموضوعية، حيث أتاح المشروع الإصلاحي فرصة كبيرة للبلد فرصة خوض غمار تجربة ديمقراطية جديدة، متوازنة، وهادئة، بعيدا عن اية ضغوط أو اكراهات خارجية. ولكن السؤال بمعيار السياسة وبميزان التاريخ: من ضيع هذه الفرصة؟ ومن أهدر أفقها المفتوح وتسبب في تضييقه؟ 

الجواب متعدد الجوانب ولا شك، ولكن من الواضح الأكيد أن المعارضة كان لها النصيب الأكبر من المسؤولية، لأنها لم تفهم حركة التاريخ، ولا تقدر طاقة احتمال الواقع (ببعديه المحلي والإقليمي)، فتورطت في رفع سقوف المطالب وحتى المطامع، وتوريط مريديها من خلال الإيحاء لهم بأن«النصر قريب»، ولذلك كان من الصعب عليها التحرك نحو منطقة الاعتدال والفهم والتلطف، لسبب بسيط، وهي أن هذه المنطقة كانت أصلا موجودة ومطروحة ولكنها مرفوضة، ومع انه لم يكن هنالك من داع لكل حدث وجرى بتكلفته العالية على الجميع. وبالتالي فإن التوجه نحو حل الوسط السياسي، بمتطلباته العملية الواقعية، والقبول بالتمشي التدريجي الذي يواكب توجهات واهداف وافاق الإصلاح كان غائبا في اغلب الأحيان.

القوى المحسوبة على اليسار تحديدا-والتي كان يفترض انها تمتلك أكثر من غيرها القدرة على التحليل وعلى فهم حركة التاريخ-ارتكبت خطأ فادحا بتحميل الواقع أكثر مما يحتمل، فتورطت في مسيرة، اقل ما يمكن أن يقال عنها انها اتسمت بالطفولية السياسية، وسريعا ما تلقفت قوى التطرف الراديكالية (من داخل الأفق الطائفي) هذا التوجه، ودفعت به نحو سقوف اعلى، بلغت مداها في شعار (اسقاط النظام)، مما يسقط حتى شرعية وجودها كجمعيات مرخصة وفقا للقانون.

وكان من الطبيعي بعد الأزمة وانحسار حالة الغليان، ان يترجم (الصقور) التقدم نحو الحوار والتوافق الوطني مع السلطة ومع مكونات المجتمع السياسي الاخرى، على أنه هزيمة للمعارضة، في حين ترجمه آخرون بأنه الحل الذي كان مطروحا أصلا منذ فبراير 2011م، ورفضته المعارضة الراديكالية عمليا بالرغم من ادعاء وقوفها مع الإصلاح نظريا.

عمليا المطلب الجوهري لهذه المعارضة كان حوله شبه إجماع بين مكونات حلفها المقدس، وهو ضرورة تغيير النظام، وفقا للقدر المشترك الذي يجمعها في وثيقة المنامة التي تم تبينها رسميا من الجميع، ويبدأ الخلاف بعد ذلك حول التكتيكات، بين من يرى ضرورة مواصلة «النضال» إلى آخر رمق، وبين من رأى القبول بالمرحلية في تحقيق نفس الهدف. 

ولعل هذا التكتيك المكشوف، هو ما جعل السلطة-والقسم الأكبر من مكونات المجتمع السياسي الاخرى-لا يثقون كثيرا بأطروحات هذا القسم من المعارضة. فبقدر ما كانت السلطة ماضية بالفعل في الإصلاح، فإنها كانت ترى ضرورة أن تسير الأمور وفق منطق تدريجي، ومن خلال توافق وطني يراعي مصلحة الجميع، بما يمنع تغول المعارضة المتطرفة، ويدفعها واقعيا نحو الحل القبول بالتحول التدريجي نحو حل سياسي توافقي. فجوهريا لا يوجد خلاف كبير حول الأهداف السياسية المستقبلية، الخلاف هو حول التوقيت والمدى والخطوات المطلوبة في المرحلة الحالية، وفي المرحلة المستقبلية، أي حول بناء الثقة. ولكن هل يقبل جناح (الصقور)، بمرجعياته وتحالفاته بالعودة الى (الرشد) السياسي، والتقدم إلى منطقة القبول بالحلول المرحلية التي يتحملها الواقع؟

من الطبيعي أن تكون هنالك شقوق في أي جمعية سياسية، من اقصى اليمين الى اقصى اليسار أو من الصقور إلى الحمائم-وفقا للتصنيف المتعارف عليه في الثقافة السياسية في العالم-وجمعية وعد –على سبيل المثال فقط-لا تشذ عن هذا الاستقطاب الداخلي الناجم عن تعدد الأفكار والآراء والمواقع والتقييمات والتكتيكات السياسية وتنوعها داخل المنظور الحزبي الواحد. ولكن من الواضح -وفقا للمتابعين لملف الجمعية ومواقفها السياسية-أن شق الصقور فيها هو الفائز دوما، وله الغلية مما وسم مواقف الجمعية بقدر من التصلب إزاء الملفات السياسية، قبل الأزمة في 2011م أو أثنائها او بعدها، ولم نر إلا نادرا اي اختراق حقيقي لما يسمى بشق الحمائم، لا في المواقف ولا في الأقوال، وحتى الذين عبروا – فرادى-عن مواقف بدت لينة او واقعية، سريعا ما تراجعوا عنها، و«وسحبوا كلامهم» تحت ضغط الماكنة الحزبية.

دفعني الى هذه الملاحظة ما ورد في مقال منسوب إلى الزميل محمد الغسرة، وصلني عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول مجريات النقاشات داخل جمعية وعد، في ضوء الأزمة الناشئة عن تحريك وزارة العدل والشؤون الإسلامية لقضية ضد الجمعية، لطلب حلها في ضوء وما نسب إليها من مخالفات لقانون الجمعيات السياسية، حيث تحدث الغسرة عن توزع المواقف داخل الجمعية -في ضوء ها التطور-بين الصقور والقاعدة العريضة والحمائم. حيث أشار إلى أن الاتجاه الذي «انتصر» هو شق الصقور، بكل ما يعني ذلك من معطيات وتبريرات منغرسة في تربية الواقع المركب من الإحباط الناشئ عن سوء التدبير. وعليه أرجو-وحفاظا على ما تبقى من كيان الجمعية، أن لا «يصر» الصقور على التصلب أكثر مما فعلوا في السابق، وتسببوا لأنفسهم ولجمعيتهم وللحياة السياسية في البلد فيما نحن فيه اليوم من تأزم.. فالواقع قد تغير،

مما يتطلب قراءة جدية وواقعية له، بل والانصات جيدا إلى مؤشراته وتحدياته، وهذا يتطلب امتلاك الشجاعة للمراجعة وتعديل المسار، واتخاذ قرارات صعبة ولكنها ضرورية وعاجلة، على صعيدي الفكر كما على صعيد الموقف معا، ونحيل هؤلاء بأسئلتهم المشروعة وغير المشروعة، إلى سؤال من صلب الفكر اليساري حيوي ومهم: أين أنتم مما فعل ماكس في زمانه؟ ومما فعل انجلز بعد وفاة ماكس بإصراره على إعادة قراءة الوقائع من جديد مع الاعتراف بالتقصير؟ بل اين أنتم مما فعل لينين في رؤاه الخاصة عن واقع المجتمع الروسي وتكويناته وتقسيماته آنذاك، وإضافاته الكبيرة التي سجل من خلالها خطوة جديدة ومتقدمة في الفكر والممارسة؟ وأين أنتم مما فعل ماو تسي تونغ في قراءته للمجتمع الصيني؟ او مما فعله غرامشي مع المجتمع الإيطالي؟ او ما قدمه هربرت ماركيز وفرانز فانون وريجيس دوبريه عن تغيير العالم...! اين أنتم مع نمو الواقع الاجتماعي والسياسي المحلي والإقليمي والدولي...؟ 

إنه مهمة حيوية لأي فكر حيوي وواع بالتحديات، ومتحرر من فكرة الانتصار والهزيمة، ولذلك ما زلت اعتقد أنه لا مناص من إعادة تأهيل بعض هذه المعارضة لمساعدتها على تجاوز نفسها، ومراجعة أخطائها ومصالحة نفسها، مع نفسها ومع المجتمع، ولا اعتقد ان هناك اي ضعف أو هزيمة بالاعتراف بالخطأ، من اجل قلب الصفحة والمضي قدما الى الامام، بغض النظر عن موقف الآخرين من ذلك، لأن المسألة ليست مقايضة سياسية بالأفكار والمواقف. إن امتلاك شجاعة التجاوز هو المطلوب في هذه المرحلة.