رضوان السيد

لا حديث في هذه الأيام في لبنان إلاّ عن قانون الانتخابات الجديد الذي فشلت الُنَخُب السياسية حتى الآن في التوافق عليه. وكان وزير الداخلية وبحسب القانون الساري المفعول والُمَهل الملحوظة فيه قد عرض على مجلس الوزراء الدخول في المرحلة التمهيدية للانتخابات بدعوة الهيئات الناخبة للانعقاد، وتأليف اللجنة التي ُتشرف عليها. لكّن رئيس الجمهورية لم يوافق على المقترح، وقال إنه يفّضل الفراغ (أي انحلال مجلس النواب بانتهاء مدته الممَّددة من دون بديل!) على إجراء الانتخابات بحسب القانون الحالي. 

وعندما لم يبق من عمر مجلس النواب غير شهرين، وخشي رئيس مجلس النواب من انحلال السلطة التشريعية، دعا إلى جلسة للمجلس من أجل التمديد لحين الاتفاق على قانوٍن جديٍد بحسب رغبة الرئيس، وسارع الجنرال الرئيس إلى استخدام صلاحيته الدستورية بحسب المادة 59 وهي تتيُح له تعطيل المجلس أو تأجيل اجتماعاته لشهٍر واحد. 

ولأّن رئيس الحكومة وافق الرئيس، ورئيس المجلس اعتبر ذلك فرصة أخيرة للاتفاق على قانون جديد (ودائمًا بحسب رغبة الرئيس)؛ فإّن الطرفين أذعنا لدستورية القرار، خشية زيادة التوتر الطائفي الذي عادت أمائره بين المسيحيين والمسلمين. ذلك أّن الأطراف السياسية المسيحية الرئيسية، هَّددت بالنزول إلى الشارع إن انعقد المجلس للتمديد لنفسه. لقد ذكرُت هذه التفاصيل لأِصَل إلى أّن المعروض على اللبنانيين حتى الآن باعتباره قانون انتخاباٍت جديدًا، وهو الذي يحاول الرئيس وصهره فرضه، هو قانوٌن تجري فيه الانتخابات على مرحلتين: مرحلة للتأهل الطائفي والمذهبي حيث يصِّوُت المسيحي للمسيحي، والمسلم للمسلم، وهم يسمون هذه المرحلة مرحلة الأكثري، والمرحلة الثانية تجري فيها الانتخابات العامة بين المتأهلين طائفيًا ومذهبيًا بحسب ترتيبات النْسبي (!).

ويقول الوطنيون من خصوم القانون المقترح إنه وصفة للتمييز والفصل بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، بحيث ينتفي معنى العيش المشترك، ويتساكن الطرفان دون أن يعيشا عيشًا واحدًا كما هو مقتضى الميثاق الوطني والدستور بين العامين 1943 و1990 تاريخ إقرار دستور الطائف الجديد. 

وجبران باسيل صهر الجنرال الرئيس ووزير الخارجية لا ينفي ذلك، بل يعِّلُلُه بأنه بسبب الأعداد المتناقصة للمسيحيين (يقال إنهم اليوم بين 25 و35 في المائة من مجموع اللبنانيين على أرض لبنان)؛ فإّن التمثيل الصحيح والعادل لهم بحسب الدستور لا يمكن بلوُغُه إلاّ بأن ينفردوا هم بانتخاب ممثليهم في البرلمان، بعد أن انفردوا بحكم الأمر الواقع بتعيين ممثليهم في كل الوظائف العامة المدنية والعسكرية. 

أّما الوطنيون، وبينهم مسيحيون ومسلمون، فيقولون إن هذا الفصل والتمييز لا يشّكل علاجًا لتضاؤل الأعداد؛ وذلك لأّن المسلمين، سنة وشيعة ودروزًا، كانوا قد تعهدوا بثلاثة أمور تبلورت كلها في دستور الطائف: لبنان وطن نهائي لكل أبنائه، وإيقاف العّد بالزيادة والنقصان، وأن تبقى السلطة في كل مستوياتها مناصفة بين المسيحيين والمسلمين بغّض النظر عن الأعداد، وأن يكون رئيس الجمهورية مسيحيًا مارونيًا. ولذا فلا داعي ولا مبِّرر للمخاوف التي يثيرها عون وأنصاره، التي ظهرت بوضوٍح عام 2013 حين جرى اقتراح قانون اتفق عليه عون وجعجع وُسّمي القانون
الأرثوذكسي لأّن أحد نواب وزراء الروم الأرثوذكس السابقين كان أول من فّكر فيه واقترحه.

إّن المعروف عن كل ماروني بارز في المجال العام، أنه يطمح لتولي رئاسة الجمهورية. وفي العقود الأخيرة فإّن هذا الطموح ترّكز في قادة الجيش. وقد ظهر هذا الإصرار لدى الجنرال عون منذ عام 1988 تاريخ انتهاء مدة الرئيس أمين الجميل. ووقتها وبسبب الحروب التي أثارتها (حرب الإلغاء، وحرب التحرير)، خشي البطريرك صفير على لبنان بسبب استمرار الحرب، وانتقالها إلى المشهد الماروني الداخلي، فعمل مع آخرين على تواُفٍق أفضى إلى اتفاق الطائف عام 1990 - 1989. وقد انزعج الجنرال جدًا لانصراف المشهد عنه، فدفع أنصاره إلى بكركي مقر البطريركية حيث تعرضوا للبطريرك بالإهانة. والمعروف أّن الأمر انتهى بنفي الجنرال إلى فرنسا، ومجيء أربعة رؤساء بالتتابع دون أن يتمكن عون من الوصول، رغم عودته إلى البلاد باتفاٍق مع السوريين، وصيرورته قطبًا بالاتفاق مع حسن نصر الله.

لقد استثمر نصر اللهوإيران كثيرًا في الجنرال بعد عام 2006، باعتباره التغطية المسيحية الملائمة لكّل أعمال الحزب في الاستيلاء على الدولة ومؤسساتها. لكنه عندما وصل للرئاسة أخيرًا بعد إقفال الحزب للبرلمان مرة ثانية لعامين ونصف؛ ما بلغ المنصب رسميًا إلاّ بترشيح الرئيس سعد الحريري له بعد أن رشح تباعًا الدكتور جعجع، فالرئيس الجميل، فالنائب والوزير سليمان فرنجية. 
وفي كل هذه التراشيح ظَّل الحزب (ومعه حركة أمل) وظَّل الجنرال وأنصاره مصرين أنه إّما عون أو لا أحد. ولذلك ورغم الانزعاج الشديد من معظم المسلمين من ترشيح الحريري لعون، كان هناك عزاٌء من نوٍع ما مفاُدُه أنه لا يجوز أن يبقى لبنان من دون رئيس، وأنه قد يخّفف ذلك من العداء الذي يكنه الجنرال لمعظم المسلمين (كان يسمينا دائمًا دواعش!)، وأنه أولاً وأخيرًا لا بد
أن يكون الحريري قد اتفق مع عون على قواسم وجوامع من مثل ترتيبات الحكومة ووزرائها، ومن مثل قانون الانتخاب، ومن مثل المناصب الكبرى في الدولة، ومن مثل العلاقات العربية والدولية، ومن مثل النأي بالنفس في الحرب السورية التي تدّخل فيها «حزب الله» بسلاحه غير الشرعي.

لكْن فيما عدا خطاب الَقَسم الذي قال فيه الرئيس الجديد إنه سيتقيد بالدستور نصًا وروحًا، ما شهدت البلاد شيئًا من خصال الرئيس الدستورية، وبقيت غربته عن روح الدستور ونصه. فعلى مشارف زيارته لمصر رأى أن هناك حاجة باقية لسلاح الحزب بالجنوب لتحرير الأرض المحتلة، وأنكر أن تكون للحزب أعمال أمنية وعسكرية بالداخل اللبناني، وذهب إلى أّن الحزب ما تدخل بسوريا إلاّ لمكافحة الإرهاب، واعتبر الأسد «الرئيس الشرعي لسوريا».

أما فيما يتصل بقانون الانتخاب الذي يجري الآن التناُزُع عليه، فكان تيار المستقبل وجنبلاط والقوات اللبنانية قد اتفقوا على مشروع قانون سّموه: المختلط بين النسبي والأكثري. لكّن المختلط اختفى دون أن يترحم عليه أحد. وُيظهر جنبلاط وجعجع تذمرًا من بعض تفاصيل قانون جبران باسيل، أما رئيس الحكومة فيعتبر نفسهَ حَكمًا، ويقول حسن نصر الله بالنسبية الكاملة، لكن يقال إن هناك مفاوضات مع عون والحريري على أعداد التأهل الطائفي والمذهبي دونما اعتباٍر لمبدأ العيش الوطني المشترك، ولا للدستور.

رئيس الجمهوريةُ مِصٌّر على فصل المسيحيين عن المسلمين. ومعظم سياسيي السنة والشيعة يتنافسون على إرضائه في كل أمٍر، والتفكير في مستقبل الدولة والمجتمع ضئيٌل أو غائب. ولذلك قلت في عنوان المقال إن اليمين المتطرف السياسي والمذهبي هو الذي يتحكم في لبنان!