صالح الديواني

ذات عمرٍ قال الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي (إذا الشعب يوما أراد الحياة،،،فلا بد أن يستجيب القدر)، وفي تونس ذاتها صرخ رغيف الشاب محمد البوعزيزي في 17 ديسمبر 2010، يستلهم عزم خيول أبي القاسم، ويصنع الفارق الحقيقي في شارع الكرامة العربية في ثورة عُرفت بثورة الحرية والكرامة، الذي لم تستطع صنعه الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها. 


لقد كانت صرخة رغيف البوعزيزي على قدرٍ كبير من التأثير الذي نجح في كتابة أهم سِفر من أسفار التواصل الشعبي للأمة التونسية والعربية. مطوحة بجبروت الغبن والاستبداد، ومبرهنا للعالمين على قوة الشارع حين يثور، وعنفوان الشعوب حين تتوق للحياة الكريمة. وجعلنا ذلك نرى أخيرا شعبا عربيا ينفجر ثائرا نتيجة البطالة والامتهان السياسي الذي لم يركز يوما على التحول بالشعوب إلى أمم منتجة ذات تأثير اقتصادي وثقافي مهم في العالم، بل تحولوا إلى مجرد رعاة لقطعان بشرية، وتجمعات استهلاكية بلا مردود إنتاجي معبر عن أمة مؤثرة في العالم، وأجزم أن رغيف البوعزيزي أجبر القمم الاقتصادية العربية من بعده على تغيير جداول أعمالها، لاحتواء معدلات ارتفاع الفقر والتدهور الاقتصادي والبطالة، وهي التي أصبحت تشكل ظاهرة على مستوى الدول العربية كافة دون استثناء، فالمراقب لاتجاه مؤشرات النمو الاقتصادي البطيء جدا للدول العربية، سيدرك أنها أمام مشكلة حقيقية تتمثل في التنامي المطرد لمعدلات البطالة نتيجة وفرة اليد العاملة مقارنة بضعف الإنتاج المحلي لها، في ظل غياب الصناعات الثقيلة، وسوء التخطيط. إذ مرت منطقة التسعينات الميلادية ومثلها فعلت سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على البلدان العربية دون أن تسجل فيها اقتصاداتها مؤشرات إيجابية متفائلة أو مبشرة، لما قد يكون تغييرا ملموسا باتجاه النمو الاقتصادي المطلوب. وما يثير الاستغراب حقا هو تأخر الدول العربية اقتصاديا، مقارنة ببعض الدول الأخرى من العالم الثالث التي عاشت معها نفس الظروف السياسية والاقتصادية المتشابهة تماما في وقت سابق، وحققت بعد ذلك معدلات نمو اقتصادي وحضاري جيد وملموس، كالهند وإندونيسيا وماليزيا.

فكيف إذن لم تحقق الدول العربية نصف معدلات النمو الذي حققته تلك الدول؟ في الواقع لا شيء يمكنه تفسير ذلك إلا القبول بحقيقة تفشي الفساد السياسي والإداري في أركان كثير من الأنظمة العربية الحاكمة، وطريقة تفكيرها ووعيها، وإهمالها حاجات شعوبها التي ظلت ترزح تحت نير الظلم والتعسف السياسي والتأخر الاقتصادي، ومدخلة شعوبها في حالة من اللاوعي التي تغذيها الشعارات والخطب السياسية الرنانة، لتعيش على الأحلام والأمنيات بالوحدة العربية تارة، وبالعيش الرغيد تارة أخرى. لقد ملت الشعوب العربية ضنك العيش، وتمكنت من كشف الكثير من زيف شعارات زعمائها، إذ لم تعد أسيرة الإعلام الواحد واللغة الواحدة في ظل العولمة العظيمة. لقد قال (محمد البوعزيزي) الكثير من الذي لم تستطعه الكلمات، أو تغيره الخطابات. ولقد أوغل بنو جلدتنا في استعمارنا نيابة عن المستعمر الأجنبي، وتفننوا في الحجر على طموحات أمة بأكملها. لقد تذكرت إجابة (غوار الطوشة) على سؤال أبيه الشهيد في مسرحية (كأسك يا وطن) -إبان تألق المسرح السوري بسخرية محمد الماغوط-، حينما سأله: يا ابني مو ناقصكم شي؟ ليأتي الرد: (الله وكيلك يابي مو ناقصنا غير شوية كرامة). نعم إنها الإجابة الأكثر صدقا مع واقعنا المؤلم. وأراني لا أقف عند حدود نمطية تعود عليها المواطن العربي المغلوب على أمره حينما أقول: إن ظروف غالبية البلدان العربية الاقتصادية متشابهة إلى حدٍّ بعيد، لذلك انفجرت ثورات شعبية أخرى آزرها دعم سياسي عالمي، وأجزم وأن هناك ملايين (البوعزيزي) ينتشرون على أراضي وتراب الدول العربية، لا يبعدهم عن الاحتراق أكثر من شعرة معاوية التي قد تنقطع في أية لحظة. فقد رأينا (تونسة) قضايا المجتمعات العربية الاقتصادية وغيرها وكانت خيارا منطقيا، فسر مستوى النضج الطيب الذي حققه الشارع العربي في زمن الانفتاح والعولمة، وما لم يسارع قادتها في تبني الإصلاحات الاقتصادية بتخطيط جدي، وتفعيل الدور المؤسساتي في كل قطاعات الدولة الحيوية، وتنظيم خطط الخصخصة، وإحلال الشباب في مواقع القيادة وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، فإن حالة ثوران الشوارع العربية لن تقف عند حدود البوعزيزي.