خالد عباس طاشكندي

بلغت الانتخابات الرئاسية الفرنسية قمة الإثارة بعد أن تحققت سابقة انتخابية في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة بإقصاء اليمين واليسار من الدورة الأولى للانتخابات بتصدر المرشح الوسطي المستقل إيمانويل ماكرون المؤيد لمشروع الوحدة الأوروبية وممثل حزب أو حركة «إلى الأمام» الذي بالكاد مر على تأسيسه عام واحد فقط وعلى غير المعتاد، لا ينتمي إلى أي من أحزاب اليمين أو اليسار. 

فيما على الطرف النقيض، تأهلت مارين لوبان مرشحة أقصى اليمين التي تتبنى مشروع حملة «فريكست» لفك الارتباط بالاتحاد الأوروبي، ويعد ترشحها أيضا مفاجأة على المشهد السياسي الفرنسي حيث جرت العادة أن يتحد اليمين واليسار ضد أقصى اليمين، وكل ما حدث كان بعيداً عن المشهد السياسي الكلاسيكي في فرنسا الذي كانت المنافسات الانتخابية فيه حكراً على قطبي اليمين واليسار منذ عقود، إلا أن القاسم المشترك الوحيد هو استطلاعات الرأي العام التي رجحت مبكرا (منذ شهرين) حدوث هذا الواقع الجديد الذي استبعد النظام السياسي التقليدي بوصول ماكرون ولوبان للمرحلة الثانية، لتضع هذه النتائج فرنسا وأوروبا والاقتصاد العالمي على كف عفريت.

فمستقبل فرنسا الآن أصبح فعلياً على مفترق طرق، فإما أنها ستقاد خلف سياسات أيدولوجية وفكرية رمادية لحزب ماكرون الجديد على الساحة السياسية الفرنسية والذي لا يعترف بالقطبية السياسية وربما يهدف إلى المزج بين اليمين واليسار أو عزل التنافس القطبي التقليدي والخروج بأنموذج مبتكر في سياساته الداعمة لبقاء فرنسا وتقوية دورها كدولة قيادية في الاتحاد الأوروبي، أو أن فرنسا تتجه نحو أقصى اليمين المتطرف لتنفض الغبار عن شعارات القومجية الاستعلائية المرتبطة بالفاشية والأيدولوجية المحافظة والقيم الرجعية التي تناهض العولمة والتعددية الثقافية وتقف ضد القيم السياسية الليبرالية وتدعو للحفاظ على الهوية الشعبية والدينية، وتهدف لوبان التي تتبنى مبادرة «فريكست» للانفصال عن الاتحاد الأوروبي وإعادة التعامل بعملة الفرنك الفرنسي والتخلص من هيمنة ألمانيا على الاتحاد الأوروبي.

ولكن يبقى الثابت في ظاهرة ماكرون الشاب الذي لم يكن معروفا قبل ثلاث سنوات من يومنا هذا أنه داعم لسياسات الاتحاد الأوروبي ولديه خلفية اقتصادية قوية ترجح كفته، وغالبية استطلاعات الرأي تؤيده بشكل كبير، كما أنه نجح في تحقيق الاستقطاب السياسي نحوه في المرحلة الحالية بالحصول على دعم كبار الساسة في أحزاب اليمين واليسار، وتدعمه الطبقة الوسطى ذات الأغلبية في المجتمع الفرنسي، خاصة الشباب العامل والكوادر المتعلمة وأصحاب الشهادات العليا وشعبيته في المدن ذات الكثافة السكانية والعاصمة باريس أكثر من منافسته لوبان التي تستقطب جماهيريتها من الطبقة الريفية والعاطلين وعمال المصانع، وذلك بحسب دراسة أجراها أخيرا معهد سبر الآراء إيبسوس ستيريا أمام مراكز الاقتراع.

ويبقى وصول ماكرون للرئاسة هو الأقرب والأفضل على صعيد الاستقرار السياسي والاقتصادي محليا وإقليميا وعالميا باعتبار أن صلب تكوينه السياسي جاء من داخل المؤسسة الحكومية التقليدية، حيث تدرج في الوظائف الحكومية تحت مظلة الحزب الاشتراكي إلى أن أصبح وزيرا للاقتصاد والصناعة في حكومة هولاند، ويدعم بوضوح بقاء فرنسا في إطار الاتحاد الأوروبي أيا كانت رؤيته المستقبلية والنهج السياسي المتأرجح بين اليمين واليسار، أما بالنسبة لفرص مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان في الوصول للاستحقاق الرئاسي فهي لا شك أنها أقل، وفقا لاستطلاعات الرأي ولن يخدمها في المرحلة القادمة سوى حدوث ظروف استثنائية تخدم قلب النتائج الانتخابية مثل حدوث عمليات إرهابية تضاعف مساندة ناخبي الأحزاب المستبعدة تجاه الجبهة الوطنية أيا كانت التوجهات السياسية ومدى كارثيتها على أوروبا والعالم.

أما وصول لوبان لسدة الرئاسة فهو ضرب من الجنون ويعني انفصال فرنسا التي تعد أحد الأركان الأساسية في نشأة الاتحاد الأوروبي والنواة التي تأسس عليها هذا الاتحاد منذ تشكيل الجماعة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951 إلى اتفاقية روما في 1957، وأولى تبعات ذلك سيكون وبالها على المواطن الفرنسي البسيط وتحديدا طبقة الناخبين لليمين المتطرف، حيث أكد الخبراء أن قيمة السلع والضرائب سترتفع مباشرة إلى أجل غير معلوم، أما الكابوس الحقيقي هو انفراط عقد الاتحاد الأوروبي، وتبعات ذلك على الاقتصاد والأمن والسلم العالمي، ولذات الأسباب فشل اليمين المتطرف في انتخابات النمسا وهولندا أخيرا.

ومع كل ذلك، سيناريو الخيار الكارثي في انتخاب لوبان ممكنا وإن كان مستبعدا، إلا أن الأزمات الاقتصادية والأمنية المحبطة ربما تجعل شرائح كبيرة من الناخبين في حالة من «اللاوعي» وتدفعهم لانتخاب لوبان، فما تشهده الساحة العالمية من نزاعات، تؤكد أننا نسير في عالم مختل، والليالي من الزمان حبلى مثقلات يلدن كل عجيبة.