عبدالله العوضي

في فترة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كنا نتابع لعبة الأمم وأحجاراً على رقعة الشطرنج و«بروتوكول حكماء صهيون» وأعمدة الحكمة السبعة وغيرها من الأفكار التي تمضي وفقاً لنظرية لعبة الشطرنج التي يحرك بها العالم نفسه.

وكان الشطرنج في القِدم وسيلة مجدية لإرسائه دعائم السلم العالمي عندما يقبل المتحاربان بنتائج هذه المباراة، أو المبارزة الفكرية المحبوبة لدى الرياضيين، وإن دخل السياسيون على خط نار هذه اللعبة بطريقة المصالح المشتركة أو المتضادة.

فكل المشاكل السياسية في العوالم الثلاثة كانت تنسب إلى هذه اللعبة التي لعبت بها السياسة وغيرت أهدافها النبيلة أو البريئة إلى استعمار مباشر، أو غير مباشر، للدول والمجتمعات، بل أحياناً استعمار للعقول والأفكار التي تدعو إلى غير ذلك.
ومع دخولنا إلى القرن الحادي والعشرين ودعنا الشطرنج سياسة وليس لعبة رياضية دولية، لكي يتم إحلالها بلعبة أخرى أكثر خطورة في النتائج لأن بطلها «الدومينو» الذي يأخذ بتلابيب الدول المستقرة دولة تلو أخرى.

وكان أبرز نتائج هذه اللعبة السياسية المستحدثة في ما يسمى بـ«الربيع العربي» الذي سمم الأجواء الآمنة ولوَّث هواءها النقي وأدخل بعض دول العالم الثالث في حالة فوضى لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر.

وأفظع حصاد هذا «الربيع» المدمر ظهور «داعش» من بين ركام هذا «الربيع» الزائف وقد أثرت نتائج لعبة «الدومينو» هذه على تونس ومصر وليبيا وسوريا والعراق واليمن، وكادت دول أخرى تذهب في شربة ماء هذه اللعبة شديدة الخطورة في تفجير أوضاع المنطقة.

ولعل ما ساعد هذه اللعبة السياسية الجديدة على الانتشار هو نظرية كوندوليزا رايس في «الفوضى الخلاّقة»، التي حوّلت نسائم الاستقرار والأمان المستتب في بعض الدول إلى حلم لا يطاله التحقيق في المنظور القريب ولا المتوسط.

ومع دخول «داعش» على خط هذه اللعبة اختلط حابل السياسة الدولية بنابلها، ولم تعد الرؤية واضحة لما يمكن أن تصير عليه الأمور في بعض الدول التي دخلت أتون حرب أهلية صريحة كالعراق وسوريا، وكادت اليمن تغرق في ذلك لولا تدخل حكمة قادة دول التحالف في «عاصفة الحزم» لاستعادة الأمل، وهو ما أوقف لعبة «الدومينو» في اليمن. والأمل معقود بأن التحالف الإسلامي والعالمي يزيح كابوس الإرهاب عن طريق الدول التي ابتليت بالآثار الجانبية للنظريات السياسية التي ذهب مفعولها بعيداً عن الوصول إلى السلام العالمي.

لقد تدحرجت حجارة الشطرنج من أماكنها المعهودة ووقعت على رؤوس مَن وقعوا ضحية نقلها وآلامها وأذاها المدمر لكل عامر، ولحقتها لعبة «الدومينو» لكي تزيد الطين السياسي اللازب بلة وسيولة، وجاءت «الفوضى الخلاّقة» لتقطع الطريق على الساعين لإطفاء تلك الحرائق السياسية، وتنعم في إيصال الداء السليم إلى الأجساد السقيمة سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً.

فالناصح أصبح مذموماً والواقع صار ملغوماً والحالة غدت مأزومة والمصلحة جارت على القيم والأخلاق المعهودة لدى الشعوب والصداقات والتحالفات والاتفاقيات تغيرت لغتها لغير صالح العالم الثالث أو منطقة الشرق الأوسط بالإجمال.

وبين هذا وذاك هناك الرافض لمس أي سلك من أسلاك نظرية «المؤامرة» أو حتى ذكر إسرائيل التي كانت توصف بالعدو الأول والأوحد للشعوب العربية والإسلامية بسبب احتلالها للأراضي الفلسطينية.

وجاء من بعد إسرائيل أعداء جدد تمثلوا في الأحزاب والجماعات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة التي تلبَّست بلبوس الإسلام أو الدين وقامت وسط هذه الفوضى ثلاثية الأبعاد بارتكاب الفظاعات والمجازر التي توسم في القوانين الدولية بجرائم الحرب المعروفة عالمياً.

هكذا وجدنا أنفسنا أما حصيلة مرة ومرعبة لتكالب أصحاب نظريات أحجار الشطرنج والدومينو والفوضى الخلاقة ليبعدوا شبح المؤامرات الماضية عن منطقتنا ويستبدلوا ذلك بأدوات سياسية جديدة ومتجددة لحاجة الواقع المتغير وسياسة الأمر الواقع كما هي مرسومة أمام العالم الذي قد يعيد تقسيم المنطقة من جديد بصورة مختلفة عن زمن «سايكس- بيكو» ووعد بلفور وغيرها من الاتفاقيات التي لم تصدق المنطقة أنها خرجت من إسارها، حتى طوّقت أعناقها ببلاوي «داعش» و«القاعدة» و«الحوثيين» وشرر «حزب الله» المستطير لتكتمل صورة غير مرغوبة في النظر إليها لشدة بشاعتها وفق كل المقاييس.