يحيى الأمير

كل أزمنة ومراحل التاريخ السعودي كانت أزمنة تغيير وانتقال من واقع إلى واقع آخر، تمت تلك التغييرات بسلاسة كبرى في كل ما يتعلق بالجوانب التنموية المادية من عمران وبناء لأنها جلبت الكثير من الراحة والرفاه، لكن الأمر لم يكن كذلك أبدا في كل ما يتعلق بالعادات والأفكار والانفتاح وترسيخ المدنية.

المدنية تقتضي شرطا أساسيا وهو التنوع والقبول به بل حمايته بينما الثقافة المحافظة هي ثقافة اللون الواحد والتي تسعى للحفاظ عليه ومقاومة أي تغيير له.

يناقض اللون الواحد أساسا الإنسانية الأصيلة للحياة بل يعكس توترا في الذهن المحافظ في علاقته بالواقع وبحركة الزمن وتحولاته.

الخطيب والواعظ التقليدي دائما لا يتحدث إلى ذاته وإنما يتحدث للناس، فهو لا يحث ذاته على المحافظة ولا يحذر نفسه مما يراه بدعا ومخالفات بل يحذر الناس غالبا، ذلك أنه يخاف من تغير الناس بالدرجة الأولى، في سعي لترسيخ الاحادية واللون الواحد، وهذا شأن كل منطق أحادي. هذا لا يتسق تماما مع قيمة الدولة والتي يعد التنوع أبرز سماتها.

انطلقت الدولة السعودية منذ التأسيس مؤمنة بقيمة التغيير وتحولات المراحل، وكانت في كل مرحلة تستأنف واقعا متجددا وتفتح نوافذ جديدة للتنوع وتكريس المدنية والنظام وفق الظرف الاجتماعي القائم في كل مرحلة وبما يلائمه ويساعد على تقبله ونموه.

هذا جانب محوري ومهم جدا فالدولة تبني دولة للناس للشعب وليست لها وبالتالي فالعمل على جعلهم جزءا من هذا البناء واستمرار تحفيزهم باتجاه مزيد من القبول بالتنوع والمدنية أمر محوري جدا، ولعل هذا يفسر ما يراه البعض على أنه بطء في عمليات ومشاريع التغيير الحضاري والثقافي والاجتماعي في السعودية، إنه في الواقع حرص على إدماج أكبر شريحة ممكنة في هذا التغيير لا على مستوى التحفيز والحث فقط، بل، وهو الأهم، على مستوى الرهان على الأجيال المتعاقبة التي ما تلبث أن تصبح أكثر تطلعا لحياة مدنية وتتحول هي إلى صفوف المطالبين بذلك. والملفت أنه أيضا وعلى امتداد التاريخ السعودي كانت كل مرحلة تمهد للمرحلة التالية لها وتجعلها أكثر قدرة على التغيير وتمثل كل مرحلة تأسيسا لعمليات تغيير في المرحلة التي تليها، وهو ما يجعل مسؤولية كل مرحلة مسؤولية مضاعفة تتمثل في استثمار الأرضيّة السابقة وفي بناء أرضية جديدة للمرحلة التي تليها.

هذا في الغالب ما يحدث الآن، المرحلة السابقة قدمت تأسيسا واعيا في مشاريع عدة منها الابتعاث والتوسع في الجامعات واستكمال كثير من البنى التحتية وإقرار الكثير من الأنظمة والتشريعات واستيعاب مهم لحالات التحول الاجتماعي وما تستلزمه من مواكبة من قبل الدولة والمؤسسة، والمرحلة الحالية تسعى بكل ذكاء لاستثمار ذلك وتنطلق من وعي حقيقي بالمرحلة الراهنة وبحالة الوعي المتجدد لدى المجتمع وتؤسس لقيم اجتماعية وطنية جديدة وتسعى لإعادة بناء الأولويات وتحفيز المجتمع وإعادة بناء كثير من المؤسسات بما يوازي هذه التحولات.

إن الحديث عن الرؤية السعودية وخطط التحول ليست مجرد مشروعات اقتصادية بل هي مشروعات تنموية كبرى وشاملة تتعلق بكل جوانب الحياة وتمثل استمرارا لكل مشروعات البناء والنهضة التي عرفتها العهود السعودية السابقة وفِي ذات الوقت تمثل استئنافا لمشاريع ملائمة للمرحلة قادرة على استيعاب تحولاتها.

وفِي كل المراحل يظل المجتمع هو المحور الأساسي لكل ذلك، وتظل ممانعة التغيير وممانعة الانفتاح مجرد نسخ مكررة تظهر في كل زمن ثم ما تلبث أن تختفي لأنها تسعى أولا للتأثير العام الشمولي وهذا شأن مؤسسات الدولة، ولأنها تؤسس لحالة انغلاق وتراجع بات المجتمع أكثر قوة في مواجهتها والرد عليها من خلال سلوكه الأكثر انطلاقا نحو المدنية والحياة الطبيعية..

إنها أزمنة متجددة، وذلك التجدد هو الذي منح هذه البلاد قدرتها الفائقة على تجاوز مختلف الظروف الإقليمية والدولية، وهو الذي مكنها كذلك من بناء هذا الاستقرار العظيم.