علي سعد الموسى

كنا مجموعة من كتاب الإعلام السعودي، وعلى طاولة غداء في ضيافة أرامكو بمدينة جازان الاقتصادية عندما فتح الصديق العزيز الدكتور حمود أبوطالب جرح السؤال: كيف استطاعت أرامكو خلق بيئة إنتاج وإدارة من ذات «الخلطة» الاجتماعية المحلية التي لم تحقق نفس الإنجاز والنجاح في بقية الوزارات والمؤسسات الوطنية المختلفة؟ وبالطبع،

لا يمكن لمثل هذه المقاربات الوصفية البراقة أن تسحبني إلى مساحة تضليل في تفسير السبب الذي جعل من أرامكو بيننا بيئة نجاح مختلفة عن «كان» وأخواتها المعاقات السبعة في مفاصل إدارة مسيرتنا الإدارية والتنموية. وبالبلدي الصريح المباشر: نجحت أرامكو لأن «الأميركان» هم من وضع القطار على أول السكة. نجحت لأن هؤلاء الخواجات هم من رسم الخريطة وكتب «الكتالوج» وحدد كل المعايير. نجحت أرامكو، وبكل اختصار، لأنهم من صنع المركبة وعبَّد الطريق، ثم قال لكارتيل الانتلجنسيا السعودية في الشركة: هذا هو المفتاح وهذه هي الطريق.
نحن في قبضة اليد الأخرى وفي صحن الميزان الآخر نسجل ربع نجاح ونصف فشل وتبقى لدينا ربع أخير لتكرار التجارب المعاقة. ماذا سيكون وضعنا اليوم لو أننا منذ نصف قرن أيضاً أسلمنا بناء التعليم والصحة والنقل والبنى التحتية لمثل هؤلاء «الحمر» كي يبنوا عربة القطار الأولى ويعبدوا الطريق الأساس، ويكتبوا «الكاتالوج» ثم يقولون لنا بعدها هذا هو المفتاح، وهذه هي خارطة كل الطرق. نحن فشلنا في هذه الأساسيات من حياتنا لأننا سلمناها ذات زمن لأسوأ نماذج التخطيط والإدارة التي كنا نستوردها، ومازلنا من بيئات مجاورة. خذ مثلاً: في بناء مناهج التعليم، نجح كمال الهلباوي في سبعين القرن الماضي في أن يخترق الوزارة ليكون كبير المستشارين، ومازال حتى اللحظة يكتب هذا المنصب على رأس سيرته الذاتية. ترك بعده في الوزارة ألف بيضة فقست حتى اليوم عشرات آلاف «الفروخ»، فلم يكتبوا لنا حرفاً إلى معالم التعليم بقدر ما استنسخوا لنا حكاية اسمها «معالم في الطريق». مهاتير محمد استقدم خمسة من أساتذة هارفارد. الذين رسموا لنا وخططوا هيكلنا الصحي هم الأطباء الذين كانوا يهربون من بلدانهم يوم كانت «الدوسنتاريا» والتهابات الكبد تقتل من شعوبهم بالآلاف، وها نحن اليوم نقطف مما بذروا من ثمار الحنظل. الذين صمموا لنا أولى الطرق، ومازالوا يرسمون خطوطنا السريعة هم أجيال من مهندسين لا يوجد في بلدانهم الأصل طريق معياري واحد. ماذا سنكون لو أننا سلمنا مفاتيح هذه «الهندسة» قبل ثلاثين سنة لعملاق عالمي مثل هيئة طرق تكساس الأميركية.
باختصار أخير: أرامكو السعودية نجحت بالسعودية لسبب بسيط: لأنها لم تترك منذ البدء أي مدخل للاجتهادات العقيمة وتكرار التجارب. نجحت لأن الكادر السعودي العملاق في ماكينتها اليوم يعمل بعد أن وجد الكاتالوج أمامه حتى الصفحة الأخيرة. أما البقية فقد وجدوا أنفسهم في وجه الكاتالوج المضروب. يكتبون صفحة ويمسحون بعدها عشرا.