سمير عطا الله

غاب نزار قباني قبل عقدين ومعه أسراره الثلاثة: الأول، أنه الأكثر حداثة والأكثر التزاماً بإيقاع الشعر العربي. والسر الثاني، أنه كان الأكثر غزلاً والأكثر سياسة في وقت واحد. وسرّه الثالث، أنه الشاعر الوحيد في القرن العشرين الذي كان يُعرف من اسمه الأول، ولا حاجة لذكر اسم عائلته: أحمد، كان يجب أن تتبعه بشوقي. محمود، كان يجب أن تلحقه بدرويش. سعيد، كان يجب أن تضيف إليه عقل. هو، كان يكفي أن تقول نزار.


وكان فيه سر رابع. لم يبقَ أحد من رعيله أو من دون الرعيل، إلا وحاول تقليده، على الأقل في مرحلة من مراحله. ولم ينجح أحد في التوأمة. تعب المقلدون دون جدوى، وانسحبوا دون إعلان، وظل يقرض الشعر بأسلوبه وعفويته وإيقاعه مثل بحرة أو ياسمينة في حديقة دمشقية.
وسره العميق شجاعته. عاتب في اليمين، وعاتب في اليسار، وبلغ به الأمر حد التجريح، هنا وهناك. لكنه عاد فهدأ وقال إن الحق على الشعر لأنه يغوي الشاعر بالغلو. وبادله الجميع بالحب. تناسى جمال عبد الناصر «دفاتر النكسة»، وتناسى أهل الخليج شيئا من شعره، وخرجوا يستمعون إلى أمسياته ويهتفون.
خاصم نزار سوريا، وتركها إلى بيروت. وعزَّ عليه خراب بيروت التي أضاع في ركامها عيني بلقيس الخضراوين مثل دجله والفرات. فغادرها إلى لندن. وفي ضباب لندن ظل يشرق مع شمس العرب.
كان يدرك بفرح شديد، أنه حالة شعرية لا رديف لها. وكان يتلذذ بخبث وهو يرى المحاولات تسقط على ضفتي النهر. وكان يمزح ويفاكه وتفور فيه السخرية الشامية، كلما سقط شاعر آخر، فيقول ضاحكاً ساخراً، متهكماً: «إيه شو قلنالك خيّو»؟
عامل كل ما هو عربي وكأنه أمانة في عنقه ودين في صدره: اللغة والنثر والشعر والانتصار والحضارة والثقافة والإبداع والرقي. كل ما هو دون ذلك كان طعنة في قلبه يحمل لها سيف دون كيشوت ويهب على الطواحين. هاجم العرب بقدر ما أحبهم. وأغار عليهم بقدر ما غار على عروبته، واتخذ لنفسه قراراً لم يستطع أحد إقناعه بإعادة النظر فيه: هو يوم نسر، وهو يوم عندليب.
وأحبت العرب النسر، وشغفها العندليب. وظل شامخاً مثل نخلة، تحط على جذوعه الطيور. وكان شاطراً، ماكراً، يعرف ذلك ويتلذذ بمرتبة السامقين: «إيه خيو، مو قلنالك...»..