هادي اليامي

البرلمان الخليجي ما زال حلما يراود المهتمين بالجانب التشريعي، لإقرار قوانين مشتركة تقضي على التباين الموجود بين بعض الدول، وتؤدي في النهاية إلى توحيد اللسان الخليجي

مرة أخرى تقدم دول مجلس التعاون الخليجي دروسا مجانية في حكمة القيادة، وانتهاج أساليب حديثة في فن الإدارة، تحفظ ما تحقق، وتؤسس لاستمرار عهود الاستقرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي الذي تنعم به. وإن كان الله عز وجل قد أنعم على تلك الدول بنعمة البترول والغاز الطبيعي وغيرها من الموارد، فإنه أنعم عليها قبل ذلك بنعمة تفوق ذلك، تتمثل في قادتها الكرام، الذين نهلوا من معين الحكمة، وعلمتهم التجارب أن الاستقرار والأمن نعمة لا تدانيها نعمة، وأن أي تطور اقتصادي أو ازدهار تجاري لا يعني شيئا، ما لم يتم ضمان الاستقرار، وبسط الأمن، وبذل الغالي والنفيس لأجل رفاهية المواطنين وراحتهم.
ربما يعيب بعض دعاة الحضارة والمبهورين بالقيم الغربية وقشور المدنية، على مجتمعاتنا أنها «غير ديمقراطية» كما يرون، ولا يدري هؤلاء أن كل مجتمع حباه الله بخصائص يمتاز بها عما سواه، وأن ما ينفع من نظام في مجتمع ما ليس بالضرورة أن يكون نافعا في مجتمع غيره، وأن الديمقراطية التي يتشدقون بها كانت في بعض الأحيان سببا في شقاء مجتمعات كثيرة، لأن القائمين على تلك المجتمعات لم يكلفوا أنفسهم عناء تنقيح ذلك النظام البشري، وأخذوا التجربة بحذافيرها، دون مراعاة للاختلافات المجتمعية بينهم وبين الدول التي تتبناه، فكانت النتيجة أن ابتليت بتحزبات بغيضة وممارسات سياسية سالبة، أدت لتبديد مواردها، ونظرة بسيطة على بعض الدول المحيطة بنا توضح ذلك.
وهناك سؤال بديهي يفرض نفسه؛ ما هي الغاية من الأنظمة السياسية؟ أليس الهدف الرئيسي هو إسعاد الشعوب وتحقيق رغباتها، والعمل على تطويرها وضمان رفاهيتها، وتحقيق مقاصد الشريعة الخمس، النفس والعقل والدين والنسل والمال؟ أليس ذلك متوفرا وقائما في مجتمعاتنا الخليجية؟ وهل هناك دولة عربية أخرى تتحقق فيها هذه المقاصد كما هو واقع في بلادنا ولله الحمد؟ فإذا اتفقنا على ما تقدم، وهو من البديهيات، فإن مجتمعاتنا تكون – بحمد الله – قد طبقت أفضل النظم السياسية التي تتوافق مع طبيعتها ولا تتعارض مع قيمها وعادتها وتقاليدها.
الاجتماع الأخير لوزراء داخلية وخارجية ودفاع دول المجلس، الذي عقد أواخر الأسبوع الماضي في الرياض، قدَّم درسا بليغا في وحدة الرأي، واتفاق المواقف، وتوافق القلوب، فقد خرج بنتائج مبهرة، أكدت أن دول الخليج كل لا يتجزأ،. فما يحدث في الرياض ينعكس فورا في أبوظبي والكويت والدوحة والمنامة ومسقط، وما يهم المواطن الكويتي يتشارك فيه السعودي والإماراتي والبحريني والعماني والقطري. وهذا لا يعني بالضرورة التبعية وغياب الرؤى الخاصة، لكن ما دام الجميع قد اتفقوا على وحدة المصير، وتشابه الغايات وتطابق الأهداف، فإن كل تباين في الرأي مصيره إلى الاتفاق، والتوافق، شريطة أن تتم معالجة كل الاختلافات داخل إطار البيت الخليجي الواحد، بأناة وسعة صدر وقدرة على إيجاد القواسم المشتركة.
ولا يخال أحد أن مداولات دول المجلس ومناقشاتها تخلو من الاختلاف في الرأي، أو أن القرارات يتم تمريرها بفوقية – من أي دولة – فهذا غير صحيح ولا يتصوره عاقل، لكنها اختلافات حميدة، لا تصل درجة الخلاف المؤدي إلى التنازع والشقاق، ولم يحدث في تاريخ المجلس منذ تأسيسه أن تطور أي اختلاف بين قادة الدول، ليبحثوا عن حل له من الخارج، بل إن التباين يتم علاجه داخل البيت الواحد، وعدم السماح لأي خلاف أن يصل مرحلة القطيعة.
ولم تقتصر نجاحات المجلس على ضمان مصالح دوله فقط، بل بات بيتا لكل العرب، يتجاوزون داخله خلافات العائلة العربية الممتدة، ويناقشون قضاياها، ويتفقون على رؤية موحدة، يخاطبون بها إخوتهم العرب في اجتماعات جامعتهم، ويسعون إلى إيجاد الحلول، وإغاثة المكروب ودعم المحتاج، يواسون هذا ويطيبون خاطر ذاك، وقد استحقت جهودهم إعجاب العرب، وثناء العالم أجمع، فباتت دولهم قبلة يقصدها قادة الدول الكبرى، عند البحث عن مشكلة مستحكمة، أو نزع فتيل أزمة طال أمدها. كما أصبحت بلادهم محطة رئيسية للمستثمرين الأجانب ورؤوس الأموال الكبرى الباحثة عن الاستثمار الاقتصادي، بعد أو وجدوا فيها ضالتهم، وأمنوا فيها على أنفسهم وأموالهم.
هكذا قدمت أرض الجزيرة العربية نماذج في الحكم الرشيد، بعد أن عرف قادتها فن الإصغاء إلى رغبات شعوبهم، والارتباط الوجداني بكل فرد من أفراد مجتمعاتهم، والإحساس بنبض الشارع، فبرعوا في تنفيذ كل ما يلبي تطلعات أبنائهم، ولم يوفروا وسيلة لإسعادهم إلا أخذوا بها، فتفانت الشعوب في الالتفاف حول قادتها، وتبارت في إظهار الولاء ومبادلة الوفاء بمثله، كيف لا وقد أمنت على نفسها، واطمأنت إلى مستقبل أبنائها، وفاق في سنوات معدودات دولا سبقتها بآلاف السنوات.
كما وأن برامج الإصلاح التي تتبعها دول الخليج لا تتوقف عند حدود الأمن والدفاع والسياسة، بل تصل إلى عمق طموحات شعوب الخليج الذين يحدوهم الطموح إلى رفع مستوى التعاون الاقتصادي من مرحلة الشراكة إلى الوحدة والتكامل، فالحاجة ملحة لاستكمال مشروع السوق الخليجية المشتركة، التي تضمن بقاء رؤوس الأموال الخليجية، وتفعيل الصناعة، وتطوير التجارة. وزيادة الاستثمارات. وهذا جانب مهم، لاسيما في ظل توجه العالم نحو تكتلات اقتصادية، تستطيع تحقيق المصلحة المشتركة. ولعل صدور قرار القمة الخليجية الأخيرة بإنشاء الهيئة الاقتصادية التنموية العليا بهدف الوصول للوحدة الاقتصادية كفيل بتحقيق ذلك. 
كما أن البرلمان الخليجي ما زال حلما يراود المهتمين بالجانب التشريعي، لإقرار قوانين مشتركة تقضي على التباين الموجود بين بعض الدول، وتؤدي في النهاية إلى توحيد اللسان الخليجي عند مخاطبة الآخر. ويعزز ما تقوم به مجالس الشورى والنواب والوطني والأمة كمجالس تشريعية في تعزيز مسيرة العمل الخليجي المشترك، وتوثيق العلاقات الأخوية والتعاون والتكامل بين دول المجلس على المستويين الرسمي والشعبي، للخروج برؤية برلمانية مشتركة. ولعل في الزيارة التي قام بها مؤخرا وفد من المجالس التشريعية في دول المجلس إلى البرلمان الأوروبي، أثرا إيجابيا في تعزيز التعاون بين مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي، ليتوافق تماما مع الأهداف السامية التي تعمل المجالس التشريعية في دول المجلس لتحقيقها، والأدوار الفاعلة التي تقوم بها في الداخل والخارج.
إذا تم ذلك فإن كافة مستلزمات التحول من حالة التعاون إلى مرحلة الاتحاد الخليجي تكون قد استوفيت، باكتمال كافة الجوانب، السياسية والاقتصادية والتشريعية، وسيجني أهل الخليج ثمار ذلك في مستقبلهم القريب.