عبد الله المدني

طيلة أسبوع كامل ظل العالم كله يحبس أنفاسه على وقع قرع طبول الحرب بين دولة عظمى تملك إمكانات تدميرية هائلة ويقودها رئيس جديد يريد أن يعيد لبلاده هيبتها ومكانتها العالمية التي اهتزت بسبب سياسات رئيسها السابق المتخاذل باراك أوباما، وبين دولة جائعة محاصرة يقودها زعيم معتوه غير آبه بشيء سوى ترسيخ سياسة عبادة الفرد وصنع أدوات الدمار الشامل والتلويح بها ضد من تسميهم بـ"قوى الإمبريالية المعادية".

ولعل ما زاد من مخاوف اندلاع حرب عالمية ثالثة إرسال واشنطن لحاملة طائراتها "كارل فينسون" إلى قبالة شبه الجزيرة الكورية، وإعلان حالة التأهب في صفوف القوات المسلحة الكورية الجنوبية وقوات الدفاع اليابانية، ناهيك عن قيام السلطات الكورية الشمالية بإخلاء العاصمة من السكان، وقيام بكين بإيقاف جميع رحلات طيرانها المتجهة إلى المدن الكورية الشمالية، وتهديد بيونجيانج بأنها ستقصف القواعد العسكرية الأمريكية أينما وجدت وأنها "لن تتوسل السلام أبدا وستنفذ أقصى عمل مضاد ضد المستفزين"، ثم قيامها باستفزاز جديد تمثل في إطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى فوق بحر اليابان عشية احتفالاتها السنوية بذكرى ميلاد مؤسسها الجد "كيم إيل سونج"، التي صادفت أول قمة بين ترمب ونظيره الصيني "شي جينبينج" في فلوريدا.

لكن فجأة حدث ما نزع فتيل الأزمة أو على الأقل خفف من حدتها ومنع وصولها إلى حافة الانفجار. فما هذا الذي جعل العالم يتنفس الصعداء وقتيا على الأقل، لعلمنا أن سياسات بيونجيانج الطائشة لن تتوقف، ناهيك أن ترمب يفضل ألا يفصح عن ردود أفعاله المقبلة؟.

لقد قلنا وكررنا في مقالات سابقة أن النظام الستاليني الذي يقوده الصبي الطائش "كيم جونج أون" في كوريا الشمالية لن يستطيع الصمود يوما واحدا دون دعم النظام الصيني الذي يمده بأوكسجين الحياة، ويوفر له ما يعينه على التملص من العقوبات الدولية المفروضة عليه. كما قلنا إن بكين، لا تفعل ذلك كرما أو حبا في سلالة كيم التي تتوارث الحكم في بيونجيانج كما لو كانت "جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية" دولة ملكية، وإنما تفعله بهدف استخدام بيونجيانج، وقت الضرورة، كمخلب قط ومصدر تهديد ضد الدول التي تقف أو قد تقف مستقبلا في وجه الطموحات الصينية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

وكان من رأي قادة بكين، كما بينا في مقال سابق، ترك الأمور تأخذ مسارها بين الغرب ونظام بيونجيانج تصعيدا دون تدخل منها إلا إذا شعرت أن الأمور قد تنفلت بصورة تهدد أمنها هي، وليس أمن العالم أو الدول المجاورة في شمال غرب آسيا.

وقد ثبت أخيرا، على هامش التصعيد الأخير بين واشنطن وبيونجيانج، أن الصين تستطيع أن تلجم صبي بيونجيانج وتوقفه عند حده إن أرادت وإن قبضت الثمن المناسب. وبعبارة أخرى فإن بكين تستخدم بيونجيانج كورقة ضغط ومقايضة للحصول على تنازلات من الإدارة الأمريكية في الملفات السياسية والاقتصادية الشائكة بين البلدين، تماما مثلما تستخدم واشنطن قضية تايوان (الإقليم المتمرد في الأدبيات الصينية الرسمية) كورقة ضغط ضد بكين، على نحو ما فعله الرئيس دونالد ترمب حتى قبل دخوله البيت الأبيض رسميا حينما أجرى حديثا هاتفيا مع الرئيسة التايوانية "تساي إينج وين".

وعليه فإن ما نزع فتيل الأزمة ليس سوى قيام بكين باستخدام نفوذها السياسي والاقتصادي لكبح جماح نظام بيونجيانج مقابل تفاهمات مع واشنطن أثناء قمة فلوريدا التي طغى عليها الملف الكوري. ودليلنا هو إشادة ترمب بالصين ـــ على عكس ما سجل عنه أثناء حملاته الانتخابية للفوز بالرئاسة ــ لمساعدتها في ممارسة ضغوط على كوريا الشمالية مقابل قيام واشنطن بتليين موقفها إزاء التجارة مع الصين، بل ذهب ترمب إلى حد إبداء الإعجاب بقرار الصين بإعادة 12 سفينة شحن كورية محملة بالفحم من حيث أتت ووقف استيراد الفحم من كوريا الشمالية، وذلك حينما قال: "عاد كثير من السفن المحملة بالفحم. لم ير أحد هذا من قبل. لم ير أحد من جانبنا تحركا إيجابيا مثل هذا من جانب الصين".

أما الدليل الآخر فجاء على لسان وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس الذي صرح قائلا إن واشنطن وبكين تعملان معا لوضع الأزمة المتفاقمة مع بيونجيانج تحت السيطرة ونزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية، مضيفا أن تجارب بيونجيانج الصاروخية تبين "لماذا نعمل عن قرب مع الصينيين بعد قمة فلوريدا".

وعلى حين تبدو إدارة ترمب مستعدة لانتهاج سياسات أقل تشددا مع بكين حول قضايا معوقات التجارة والاستثمار وتلاعب الصينيين بأسعار العملة والمناخ، فإن على قادة بكين أن يتعاونوا معها ويفعلوا أشياء كثيرة أولا طبقا لما ذكره الباحث "جرانت نيوشام" في صحيفة "إيشيا تايمز" الهونجكونجية. على رأس هذه الأشياء: التزام صيني أقوى بتشديد العقوبات الدولية المفروضة على بيونجيانج بدلا من الالتزام الفاتر؛ العمل الدؤوب على تجفيف منابع الأموال القذرة المتأتية لكوريا الشمالية من عمليات تجارة المخدرات وتزوير العملات وقرصنة الإنترنت وتهريب العمالة وتبييض الأموال من خلال مكاتب تعمل من خلف الستار في مكاو وهونج كونج؛ محاربة المصارف التي تقدم تسهيلات لشخصيات وهمية أو سفارات كوريا شمالية.