فايز سارة 

شكلت فكرة المناطق الآمنة، هاجساً في مسار معالجة القضية السورية، سواء في المستوى الداخلي أو الخارجي. وكانت في إحدى خلفياتها تعبيرا عن عجز دولي لإيجاد حل شامل للقضية السورية، يتم بموجبه وقف عمليات القتل، التي يقوم بها نظام الأسد وحلفاؤه ضد السوريين والمقيمين منهم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكانت مساعي تركيا من أجل منطقة آمنة تجاور حدودها مع سوريا أبرز المبادرات المطروحة في السنوات الماضية.
وبدا من الطبيعي قيام نظام الأسد وحلفائه برفض الفكرة التركية، لأنها تشكل تدخلاً تركياً مباشراً في سوريا، وتحد من حرية تحرك النظام وحلفائه في المنطقة، وتجعل جزءاً من السوريين خارج عمليات القتل والتهجير والتدمير، التي يتابعها نظام الأسد ضد السوريين منذ بدء الثورة في ربيع عام 2011.
غير أن رفض فكرة تركيا للمنطقة الآمنة في الشمال السوري، لم يقتصر على خصوم تركيا، إنما امتد إلى «حلفائها»، وخصوصاً الولايات المتحدة، التي قابلت الفكرة التركية بالتسويف والمماطلة، فقد راوح الموقف الأميركي في عهد إدارة أوباما بين القبول بمناقشة الفكرة وإصدار الإشارات بمعارضتها، وهو أمر كاف من الجانب التركي لعدم تنفيذ الفكرة، خاصة أن الاتحاد الأوروبي أبدى تحفظات عدد من دوله على الفكرة. واستند الموقف الغربي في رفضه إلى نقطتين، أولاهما وأهمهما معارضة الغرب لدور تركي أكبر في القضية السورية، والثاني يتصل بمخاوف من سياسة تركية إزاء الأكراد في سوريا، مع تزايد دور وقوة قوات الحماية الشعبية، ولاحقاً قوات سوريا الديمقراطية، التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ((PYD الذي ترى فيه تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني في تركيا (PKK) الموصوف من الجانب التركي بأنه منظمة إرهابية.
وحمل وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بداية عام 2017 ملامح تغيير في السياسة الأميركية حيال القضية السورية، كان بين تعبيراتها إعلان ترمب سعي إدارته إلى إقامة مناطق آمنة في سوريا، ثلاث منها في شمال البلاد ورابعة في الجنوب، وتم تكليف المؤسسة العسكرية الأميركية الإعداد لإقامة هذه المناطق في الأشهر الثلاثة الأولى من عهد ترمب.
ورغم أن موسكو قابلت المبادرة الأميركية بتحفظ أساسه اختلاف مواقف الطرفين في القضية السورية، وفي فهم كل منهما للفكرة، التي تعني بالنسبة لروسيا منطقة ذات طبيعة إنسانية، فإنها مضطرة للتعامل معها بشكل إيجابي للوصول إلى نقطة مشتركة مع الفهم الأميركي الذي يعني حماية شاملة للمناطق الآمنة، فطرحت مبادرتها لتكون على جدول أعمال اجتماعات آستانة بين المعارضة ونظام الأسد، بحيث تكون المناطق الآمنة محصورة في المناطق الأبعد عن جبهات الصدام المباشر بين قوات النظام وحلفائه من جهة وقوات المعارضة المسلحة.
وكما هو واضح، فإن ثمة تباينا في مفهوم ووظيفة المنطقة الآمنة حسب رؤية كل طرف، بحيث تخدم المنطقة الآمنة سياسته وأهدافه بالدرجة الأولى، وتعيد ترتيب العلاقات والتحالفات بين مختلف الأطراف المنخرطة في الصراع السوري وحول سوريا، قبل رؤية ما يمكن أن تقدمه للسوريين من شروط تخفف النتائج المأساوية لعمليات القصف والاجتياح العسكري، التي تسبب قتل وجرح وتشريد مئات المدنيين السوريين، وتدمر ممتلكاتهم وقدراتهم المادية الآخذة بالتدهور.
وإذا كانت المعارضة السورية مضطرة للتعامل مع فكرة المناطق الآمنة، انطلاقاً من الوقائع السياسية والميدانية المحيطة بالقضية السورية، بما تعنيه من تحييد لمناطق سورية عن الصراع، وإبعادها عن قائمة أهداف القصف الصاروخي وهجمات البراميل المتفجرة، والقصف بالسلاح الكيماوي كما حدث في مدينة خان شيخون في أبريل (نيسان) الماضي، ومن أجل تأمين حد أدنى لحياة المدنيين السوريين في شمال البلاد وجنوبها بعد أن أغلقت تركيا والأردن الحدود في وجه تدفق اللاجئين المدنيين، فإن المعارضة وافقت أن تكون المناطق الآمنة بما فيها الفكرة الروسية على جدول أعمال مباحثات آستانة، التي توقفت نتيجة استمرار قصف المناطق المدنية من جانب نظام الأسد وحلفائه.
ولعله من الحق التأكيد أن المصلحة السورية تبدو خارج سياق موقف المعارضة، بل إنها خارج سياق فكرة المناطق الآمنة في كل الأطروحات حول المناطق الآمنة رغم اختلافات الأخيرة، لأن مصلحة السوريين لا تكمن في معالجات جزئية، إنما تتجسد في وقف الحرب الجارية والوصول إلى حل سياسي، يضع حداً للكارثة التي صارت إليها حالة السوريين وبلدهم من قتل ودمار وتشتت، وهي المهمة الأولى التي ينبغي على المجتمع الدولي أن يقوم بها، بدل القيام بخطوات وإجراءات، لن تحل مشكلة السوريين، بل إنها سوف تضيف تعقيدات جديدة لقضية صارت شديدة التعقيد.. .