سمير عطا الله

تشارك العناوين في الجريمة الكبرى ضد ضحايا الحروب... تحول القتلى إلى أرقام، وتهمّش أخبار الجنازات والمجاعات، وتحيل كل شيء إلى رتابة، ولا يعود وقت للحزن والعطف. ثم يأتي زمن جائر ولا نعود نقرأ حتى العناوين. ويصغر وقع الجريمة كلما كبرت واتسعت. وكلما زاد فحشها، ازداد الصمت عليها، وتفاقم التواطؤ، وتعمق توحش الاثنين.


يجب أن يوقظنا شيء ما إلى أن ما يصيب هذه الأمة ليس ما نقرأه في العناوين في حصاد الأيام. هناك عذابات لا ترد في الإحصاء، وآلام لا تذكرها العناوين، وفواجع يعيشها الأحباء وهم يهربون من مكان إلى مكان، ومن معركة إلى معركة.
اقرأ في «لندن ريفيو أوف بوكس» ما كتبه موفدها إلى الموصل: «بعد شهرين من (داعش)، أصبح أهلها يترحمون على أيام النظام السابق». في البداية عامل «داعش» الأهالي معاملة طيبة، ثم راحوا يعدمون الأقليات، ويصادرون البيوت، ويضطهدون الأطباء والمهندسين، لأن علومهم كافرة.
الفرقة العراقية الخاصة التي تخوض حرب الموصل، أسسها ودربها الأميركيون، ولا تتلقى أوامرها من الجيش. كل مجموعة منها تحرر ما مجموعه 250 متراً في اليوم بعد قتال ضار، من منزل إلى منزل، ومن بيت طيني إلى فيلا. وكل ليلة تنام المجموعات في مكان. وما إن تحرر بقعة، حتى يخرج الأهالي المرتعدون من مخابئهم طالبين النجدة. غير أن أكثرهم يتصرف كأنه خائف من عودة «داعش».
«فجأة، يتعالى الصراخ: مفخخة قادمة. مفخخة قادمة. يهرب الجنود، ويهرب الجميع، والسيارة تتقدم، فيما يبقى جندي واحد في موقعه يطلق عليها النار دون تراجع. وفي النهاية يصيبها ويفجرها قبل أن تصل إلى الناس. ويحدث ذلك تقريباً كل يوم. وأصبح الجميع يتلفت بصورة دائمة خوف أن تكون مفخخة قادمة ناحيته».
في مشهد آخر «ضابط المجموعة يصدر الأوامر بالراديو. اهجموا. اهجموا. لكن أحدهم يقول في صوت منخفض: لن أذهب. لن أذهب». ثم يقول في الراديو بصوت عال: سيدي، لقد قتلوا الملازم للتو. إنهم يطوقوننا من كل الجهات، إلى أين تدفعون بنا؟ فيجيب القائد بالراديو: ماذا كنت تتوقع؟ أن يرشوا عليكم الورود؟ هذه حرب. حرب».
لكن الجندي يظل في مكانه متكئاً على بندقيته، ثم يصرخ: «قل للواء أن يأتي إلى هنا، ثم نتبعه جميعاً. فجأة يسمع صوت انفجار ضخم». وبالفعل جاء اللواء بعد ظهر ذلك اليوم محاطاً بالصحافيين والمساعدين في سيارات مصفحة، ووقف أمام الكاميرا يعلن تحرير تلك المنطقة: «وفيما هو يتحدث، حلقت فوق المكان (درون) تابعة لـ(داعش)، فاقتيد اللواء بعيداً».
مجرد يوم آخر، الحروب ليست فقط في العنوان. إنها في كل مكان..