فاضل العماني

يبدو أن المقال السابق "التفرغ للكتابة.. عزلة لإنتاج الصخب" والذي ناقش ملف التفرغ الإبداعي الذي ينتشر بكثافة في الدول المتقدمة التي أدركت مبكراً ضرورة الاستفادة القصوى من المبدعين والملهمين لإنتاج العلم والمعرفة والثقافة والأدب والفن، حرّك بعض المشاعر والتطلعات الراكدة التي يحملها العديد من المثقفين والمبدعين السعوديين الذين تفاعلوا بشكل كبير مع هذه الرغبة الملحة، والتي عبّر عنها أحدهم -وهو مثقف سعودي من العيار الثقيل- بأنها: "الوسيلة الأكثر قدرة على صناعة المحتوى الثقافي الحقيقي الذي نبحث عنه منذ عقود".

أعرف جيداً، بأن البيروقراطيات المترهلة والبروتوكولات المعيقة، تسببت ومازالت في منع حدوث نقلة نوعية في القطاع الثقافي الوطني الذي يُعاني الركود والتشتت وفقدان البوصلة. ثقافتنا إلى العهد القريب، كانت تتوزع وتتجاذب بين الوزارات والوكالات والمكاتب، ولعل الأمر الملكي الصادر في مايو ٢٠١٦ بإنشاء "الهيئة العامة للثقافة" يكون انطلاقة حقيقية ووثبة واسعة باتجاه هيكلة وتطوير منظومة الثقافة الوطنية لتنسجم وتتواكب مع "رؤية المملكة ٢٠٣٠" التي تُبشر بسعودية المستقبل.

إن أكثر ما يُقلق المثقف، هو مصير نتاجه الإبداعي، والذي يقبع عادة في تلك "الكراتين" الساكنة في ممرات منزله، أو يُعاني الهجر والإهمال على تلك "الرفوف" البائسة في المكتبات والقرطاسيات.

نعم.. هناك بعض الخطوات والمبادرات التي تقوم بها وزارة الثقافة والإعلام، كطباعة وشراء بعض الكتب لمؤلفين سعوديين، واستحداث برامج وفعاليات ومعارض لدعم الكتاب السعودي مثل "جائزة الكتاب السنوية للمؤلف السعودي"، وعرض بعض الكتب السعودية في المناسبات والملتقيات الداخلية والخارجية، ولكنها -تلك الخطوات والمبادرات- خجولة وقليلة ولا يمكنها أن تلامس بشفافية أزمة المنتج الثقافي السعودي.

يبدو أن الوقت قد حان، لأن تُستنسخ فكرة "التفريغ الإبداعي" في قطاع الثقافة السعودية، الرسمي والخاص، فهناك الكثير من الجوانب والمجالات والملفات الثقافية والأدبية والفنية والتراثية والسياحية والاقتصادية والرياضية التي تستحق أن تُجمع وتُدرس وتُعالج وتُبرز، وتلك عملية مضنية وشاقة، لا يمكن لكاتب أو مثقف يواجه ضغوطات ومتطلبات العمل والأسرة والحياة أن يُبدع فيها.

لماذا لا يُفرغ مهتم أو متخصص في التراث لجمع وتحقيق وإبراز الهوية التراثية السعودية التي تستحق أن تكون عالمية؟، ولماذا لا يُفرغ عدة مثقفين سعوديين في مجال الأدب لإعداد موسوعة شاملة عن الرموز الأدبية السعودية التي طواها النسيان؟، ولماذا لا تُمنح فنانة تشكيلية سعودية "إقامة تفرغ" في إحدى القرى الجنوبية التي تُعانق السحاب لرسم "ملحمة تشكيلية وطنية"؟، ولماذا لا يُفرغ أحد المثقفين الرياضيين لإعداد كتاب مهم يؤرخ للحركة الرياضية السعودية؟، ولماذا لا يُفرغ متخصص في مجال الفن والموسيقى لكتابة سيرة "صوت الأرض" الفنان طلال المداح الذي يُمثل كنزاً فنياً وطنياً؟

تفريغ المثقف السعودي، ليس مجرد دعوة للإبداع، ولكنه أيضاً خطوة واسعة باتجاه صناعة ثقافة عالمية.