حسين شبكشي

فرنسا اختارت الوسطية والتعايش وقررت ألا تصوت للتطرف والعنصرية. انتصرت أوروبا وخسر الانفصال. ولكن السؤال الذي يرهق الفرنسيين اليوم هو: هل عليهم الفرح والابتهاج والاحتفال بالانتصار الذي حققه الرئيس المنتخب ماكرون أم أن عليهم الخوف والقلق والهلع من كون المرشحة المتطرفة ماري لوبان حصلت على أكثر من ثلاثين في المائة من الأصوات، وأجبرت الانتخابات على الدخول في جولة ثانية، وهي إشارة إلى نمو الصوت المتطرف ووصوله إلى أحد الأحزاب الرئيسية، بعد أن كان لفترة طويلة خارج السياق التقليدي للحراك السياسي، واعتباره دوماً حراكاً شاذاً وغريباً؟
ولكن الأمر تغير الآن. فرنسا لديها حالة من مراجعة النفس، وتقوم بالنظر إلى نفسها في المرآة السياسية مطولاً. فهي في حالة مراجعة عميقة للإجابة عن نفسها في كيفية نمو التطرف والتعصب في بلاد تنشد الحريات وتدافع عن الحقوق وتحمي الأقليات. الفرنسيون بطبعهم شعب لديه حالتان متناقضتان؛ حالة مستدامة من الفوقية والأنا العالية والاعتزاز بالتراث والثقافة والفنون والآداب والقوانين الفرنسية التي تعبر عنها ولها الفضل على العالم بأسره من الولايات المتحدة، وصولاً لدول العالم الثالث. ومن جهة أخرى، لديها أزمة نفسية حادة في التعامل، كيف تقلص الدور الفرنسي حول العالم، كيف تبخرت القوى الفرنسية أمام الأنغلوساكسونية في شكلها البريطاني الأميركي، وهما اللذان سحبا البساط تماماً من تحت أقدام الثقافة الفرنسية. وبدأوا في غزوها في عقر دارها.
فرنسا التي كانت تعتقد أنها حامية الحقوق والحريات في العالم سلمت هذا اللواء لصالح أميركا، وفرنسا التي كانت تعتقد أنها واجهت أوروبا اضطرت لتسليم هذا اللواء أيضاً إلى ألمانيا التي تصدرت الزعامة الأوروبية سياسياً واقتصادياً وثقافياً في القارة العجوز دون جدال.
إنه عالم متغير وفرنسا غير قادرة على إيقاف هذا التغيير، ولذلك لجأت إلى المرشح الرومانسي في محاولة منها لصناعة قصة عاطفية لبطل سياسي جديد. فهي تقدم نسختها الخاصة الشبيهة بجون كيندي، الرئيس الأميركي الأسبق، أو جاستين ترودو رئيس الوزراء الكندي الحالي، وهما الاثنان يحملان كثيراً من القيم والمثاليات التي تشهد لهما، وجعلت حقبتيهما مضرباً للأمثال من ناحية محبة وإجماع الناس عليهما، ولذلك اختارت فرنسا الاختيار الألطف والأنعم والآمن والأكثر مثالية، لأنها بحاجة إلى أن تطمئن نفسها، فهي تخشى المزيد من التأزم في وضعها.
ولكن هل هذا القرار الانتخابي نهائي وبات نقطة تحول والبعد عن التطرف والعنصرية؟ الأرقام تقول إن هناك كتلة «متطرفة» جديدة وحقيقية باتت واقعاً في المجتمع الفرنسي، وعلى العالم قبول ذلك كجزء من الهوية الفرنسية المتجددة. ماكرون فاز بالرئاسة، وعمله ليس فقط أن يحكم البلد، ولكن أن يطمئن أهلها إلى أنه سيمنع التوحش المتزايد في الشخصية الفرنسية التقليدية.
فرنسا في حالة انفصام سياسي اجتماعي لا يمكن إنكاره.. . . .