عبدالعزيز السماري

 الحارث بن كلدة الثقفي طبيب عربي عاش أغلب سنوات عمره في أيام العرب قبل الإسلام، ولد بالطائف في العصر الجاهلي، ونشأ فيها وسافر في البلاد، وتعلّم الطب في اليمن حيث كان بها أقدم مدرسة طبية قبل الإسلام..

عرف الداء والدواء، وكان يضرب بالعود، وتعلّم الطب والموسيقى في أكاديمية جنديسابور في بلاد فارس، وكان طبيب كسرى أنو شروان، ولحق بدين الإسلام في أواخر سنواته، ومات في السنة الثالثة عشرة للهجرة.

من قراءة سريعة لسيرته المختصرة، يتضح أن جزيرة العرب قبل الإسلام كانت تسكنها شعوب متحضرة، ويمارس سكانها أساليب حياة أقرب للعصور الحديثة، فالحارث ولد فيها وتعلّم الطب في اليمن، وعمل في فارس كطبيب لكسرى، وكان يمارس هوايته الموسيقية..

وهو ما يدفعنا للتساؤل عن أسباب تشويه تلك الحضارة، فهل كان ذلك موقفاً دينياً، لكن الدين الحنيف جاء ليتمم مكارم أخلاقهم وليقوم حضارتهم المستنيرة كما ورد في الأثر، ولم يأت ليقضي عليها، ويخفي تراثها الإنساني العميق .

كان لهذا الطبيب عبارة خالدة، وهي «المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل شفاء»، وقد أثبتت كثير من التجارب العلمية في هذا العصر أن الأمراض قد تكون لها علاقة مباشرة بالمعدة وأمراضها..

كما أن الثابت من التجارب الطبية يدل أن العيش في حالة أقرب للصيام، وذلك عبر اتباع الحمية من السكريات والأغذية المصنعة، وتناول القليل من الأكل، مع ضرورة الامتناع عنه لمدة عشر ساعات على الأقل، يقوّي المناعة ضد الأمراض الخطيرة كالسرطان والسكر .

لم تكن حالة العرب قبل الإسلام في توحش وجهل كما يتم تسويقها، بل كانوا أمة أكثر تحضراً من بعض الأمم في هذا العصر، وقد تم اختزال حضارة دولة قريش في سماحها عبادة الأصنام حول الكعبة.. بينما كانت دولة تتمتع بنفوذ اقتصادي قوي، ومؤثّرة في حضارة العرب وثقافتهم في ذلك العصر، وكانوا يحكمون أنفسهم من خلال دار أقرب للبرلمان المصغر، وساهموا في تأسيس أحلاف إنسانية رفيعة كحلف الفضول.

تستخدم بعض التيارات لفظ الجاهلية في غير محله، فالقصد كان، كما يبدو لي، حالة الجهل بتوحيد الله في العبادة، لكنهم أي العرب القدامى لم يكونوا جهلاء إذا كان تعريف الجهل هو نقيض العلم..

فقد كانوا أمة متحضرة، والدليل مقولاتهم الرائعة، وشعراؤهم العظماء كزهير وعنترة والنابغة وغيرهم، لذلك يجب إعادة تعريف تلك الفترة الزمنية، فقد كانوا أمة غير جاهلة، تقدّر التجارة ويتعلّم أبناؤها الطب، لدرجة أن أحدهم كان طبيب كسرى فارس.

كان ذلك التعريف غير الدقيق في وصم حال العرب بالجهالة سبباً لاستعارتها سياسياً في هذا العصر لإقصاء الشعوب وقتالهم، فسمعنا مقولات مثل جاهلية القرن العشرين،كان ذلك مدخلاً للتكفير، وكان ذلك أيضاً سبباً لإعلان الحرب ضد شعوب وحكومات الجاهلية المعاصرة في المجتمعات العربية، وكان الثمن اقتتال ودماء لا تتوقف، وحالة بؤس وفقر ومرض وخوف غير مبرر...

نحتاج إلى أن نتصالح مع تاريخنا العربي، وأن نتوقف عن استغلاله لضرب الحاضر وتدميره، فالتاريخ لا يمكن أن يعود إلى الخلف، والمستقبل تكتبه إنجازات الحاضر، وإذا لم يتم التصالح مع الماضي، سنظل نمجد بعضاً منه، ونلعن آخر..

رحم الله الحارث بن كلدة، فقد كان نابغة في الطب، وكان دليلاً لامعاً على أن حياته التي عاشها قبل الإسلام كانت دليلاً على أنه وليد أمة حاضرة بثقافتها وعلومها واقتصادها، ولا يمكن أن تنفصل عن مراحل ازدهار حضارة العرب المسلمين في القرون التالية، بل ربما كانت البيئة الحاضنة التي هيأت خروج الحضارة العربية إلى شتى أنحاء الأرض.