محمد الرميحي

لقد صام المعتقلون الفلسطينيون قبل أي من المسلمين قاطبة، ومضى على هذا الصوم الآن أكثر من ثلاثة أسابيع، قليل الحديث في الفضاء العربي الإعلامي عن إضرابهم عن الطعام تحت شعار (الأمعاء الخاوية) احتجاجا على العنت الذي يلقاه المحتجزون من النظام الإسرائيلي في السجون التي تبلغ اثنين وعشرين سجنا في الأراضي المحتلة وخارجها،

تشمل أكثر من ستة آلاف أسير من بينهم 240 طفلا و73 امرأة وفتاة. أهلهم في بقية الأراضي الفلسطينية أضربوا عن العمل وفي معظم المناطق المحتلة أغلقت المحلات أبوابها بعضاً من الوقت، والطريق طويل... الإضراب عن الطعام ليس هو المفضل وليس هو الأسهل، لأي معتقل أو إنسان، ولكن فرضه التجاهل والسعار الذي أوقعه سجانوهم عليهم، وقد جرب المعتقلون الفلسطينيون منذ سنوات طويلة الإضراب عن الطعام، وفي معظم الأوقات كان العالم يضغط لفك كربتهم. راحت تلك الأيام التي يتفاعل العرب فيها مع القضية التي سموها في أدبياتهم السياسية القضية الأم، انشغل العرب بأنفسهم، وحملت إيران بموافقة من بعض الفلسطينيين شعاراتهم دون كثير من الفعل، غير لهجة عالية النبرة من الأصوات، يُدغدغ بها شعور العامة من العرب، يوم القدس، وفيلق القدس، وانتحاريو القدس إلى آخره من الأسماء التي يغذيها الإعلام الإيراني ومناصروه من بعض العرب ذوي العقول الخاوية، وعلى حساب القضية، بلا نتيجة ولا حتى أمل.
ربما لم يُتاجر بقضية شعب كما تُوجر بالقضية الفلسطينية، وما زالت معروضة مع الأسف في سوق النخاسة السياسية، ارتكب باسمها كثير من الموبقات من عبد الله عزام رحمه الله إلى الزرقاوي، مرورا بعشرات الأشخاص وعدد من المنظمات، وأخيرا طبعا البغدادي، وسوف يأتي غيرهم بأشكال مختلفة يحملون لواء المتاجرة، ما دام الفلسطينيون، وأعني نخبهم وخاصة قياداتهم، في شجار دائم، ويتخذون القرار السياسي في الساعة الخامسة والعشرين، واستخدام كلمة شجار لتخفيف المعنى. لا يحضرني كفاح شعب في أي مكان في العالم تشرذم بهذا الشكل الذي تشرذم به كفاح الشعب الفلسطيني، في غزة على سبيل المثال هناك سجن كبير وفقر كثير وقمع واسع، يعرفه القاصي والداني، وزعامات تدفن رؤوسها في الرمال حتى لا تعترف بذلك المأزق الذي ساهمت جزئيا في صنعه، كل ذلك باسم القضية التي لا يبدو أن هناك أفقا لها من جانب منظريهم، غير الاجتماعات وإصدار البيانات، لأن الشعارات طاغية والكراسي جذابة والزعامات متعارضة، وليس الضفة الغربية بأفضل من ذلك الغيتو القابع على البحر الأبيض، فهناك أيضا شجار مستحكم لم يستطع العقل أن يجد له متسعا للجم شهوته، أو حتى تفسيره. كما لا تحضرني قضية نضال سار متخذو القرار فيها وراء الشعبوية، وتكثيف لوم الآخر، دون عميق تفكير في المسارات الواجب اتخاذها والتكيف مع معطيات دون مزايدة أو تضليل الشارع.
كيف يمكن لمتابع عربي أن ينظر إلى تلك المأساة المستمرة، لا أريد هنا أن أوزع التهم، وأن أتخذ المكان الأعلى في منظومة النقد أو النصح، كما لا أريد أن أستصدر أحكاما جزافية مع هذا الفريق أو ذاك، القصور يعم الجميع والمسؤولية مشتركة، أريد فقط أن أحكم العقل، فالقضية على الصعيد العربي تراجعت، لا لأن العرب تجاهلوها، بل لأن كثيرا من دولهم ومجتمعاتهم دخلت في أتون حرب أهلية بعضها ظاهر وآخر مستتر، كما تفرق أهلها قبائل فاقدة لكثير من الحس السياسي الحصيف، لأن معظم القرارات تتخذ في الساعة الخامسة والعشرين بعد أن تكون الطيور الإسرائيلية قد طارت!! أما على الصعيد الدولي فهناك تعاطف، نعم، ولكن، ليس أكثر من ذلك، لأن الإسرائيليين يعملون على إخماد ذلك التعاطف وتمييع أسبابه، بل وترويج أحاديث استقبلها بعض المتشددين الذين يرجمون بالغيب وأرادوا أن يشيعوها وقد آن لها أن تكشف، فقد قيل في دراسات متعددة صدرت من منتديات بحثية غربية تبعها تبنٍ عربي، إن التهديد المشترك لدول الخليج (من إيران) تدفع الخليجيين للتعاون المشترك! طبعاً روج لذلك في بعض المؤسسات البحثية الغربية وتناوله بعض المعلقين العرب بكثير من الجهل، وخاصة من ذوي المقاعد المريحة في الغرب وشاشات التلفاز، وهو قول، بجانب أنه غير صحيح، لا يصبّ أصلا في صالح الدول الخليجية، لأنه لو تم لأعطيت الدعائية الإيرانية ذخيرة جديدة وفعالة، وهم بالتأكيد لا يريدون ذلك، فهو - بجانب كونه غير منطقي - مضاد للمصالح، لقد قال به مبكرا عام 1981 السيد ألكسندر هيغ وزير خارجية السيد رونالد ريغان، ولكن كان ذلك القول أقرب إلى التمني منه إلى التحقق، الموقف الخليجي وكثير من العرب يحد سياساته في هذا المقام سقف المبادرة العربية في عام 2002 لا غير، كما أن التباطؤ حتى بين الدول العربية التي لها علاقة دبلوماسية مع إسرائيل اليوم محكوم بقاعدة شعبية لا تتيح فرصة التقدم بسبب ذلك العنت الإسرائيلي. ومع تغير الظروف فإن الفلسطينيين اليوم يعرفون أن عليهم قلع شوكهم بأيديهم، ولكن ذلك سهل أن يقال صعب أن ينفذ، بسبب ذلك الشجار المستحكم والمزمن، بين من هم في السلطات المتعددة، وأقصد سلطة التنظيمات والمنظمات التي تحكمت في آلية النزاع البيني وسقفه، حتى الوقوف والقسم بباب الكعبة لم يستمر وفاقه طويلا! كما قامت بعض تلك الشخصيات بالاستزلام في هذه العاصمة أو تلك، وتغيرت العواصم حسب مصالح تلك القيادات، مع إهمال شديد لمصالح الشعب الفلسطيني. الزمن تغير والوعي الفلسطيني القاعدي اختلف، حملة الماء والملح التي بدأها أبناء المناضل مروان البرغوثي، سمعت في أكثر من مكان، وكان الفضل للابن الموجود في الولايات المتحدة، حيث سقف حرية التصرف لا يتحكم فيها الآباء السياسيون، وقد يبتكر أبناء الشعب الفلسطيني وسائل نضال جديدة وغير مرئية من الزعامات اليوم.
ولم ينتصر شعب له قضية وقيادته فيها أكثر من رأس، وأكثر من تنظيم، تختلف عندها الأولويات وتتناقض السياسات، حقيقة شبه مطلقة في تاريخ الشعوب، الحديث والمعاصر، تفرقوا تضعفوا. قد لا يكون هناك بصيص من حل أو حتى تقدم في هذا الملف، ولكن الحقيقة أن وحدة الشعب الفلسطيني هي مطلب مسبق لأي تحرك، بصرف النظر عن شكله ومستواه وفاعليته، فالفرقة سلاح للنظام الإسرائيلي يستخدمه يوميا وعلى رؤوس الأشهاد. أي تحرك تقوم به أي قيادة فلسطينية سرعان ما يواجه بكلام واضح: نيابة عمن تتحدثون؟ فإن تكأكأ الجواب وتلعثم اللسان، فرطت قوة التفاوض على أي مستوى وعلى أي ملف. أعرف أني أكتب وقد كتب غيري على أهمية رصّ الصفوف ونبذ الفرقة وتقديم التضحية، والعمل على وضوح الرؤية بعيدا عن الأدلجة، إلا أن كل الأصوات تذهب هباء في ظل ثقافة سياسية شبه عشائرية مشبعة بقصر النظر. أفضل صوم للفلسطينيين اليوم هو صومهم عن الشقاق باتجاه الوصول إلى التوافق، قد لا يحل كل المشكلة، ولكنه قد يُهيئ فرصة سانحة لإطلاق ديناميات يستفاد منها ونحن نشهد حراكا واسعا في المنطقة لتفكيك وإعادة ترتيب الخرائط!
آخر الكلام: دخلت الجماعات الصهيونية التي أنشأت إسرائيل تصفيات فيما بينها من أجل هدف واحد، هو توحيد المرجعية، وقال بن غوريون في البرلمان البريطاني، عندما نشرت الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض لمنع تقسيم فلسطين (كتاب ماكدونالد) عام 1939: «سوف نحارب الكتاب الأبيض كأن الحرب العالمية غير موجودة، وسوف نحارب معكم المعركة، كان الكتاب الأبيض غير موجود، تقسيم المهمات ووضع الأولويات!».. .