راجح الخوري 

 قبل أن يسأل البابا فرنسيس عشية الانتخابات الفرنسية «ومن أين يأتي إيمانويل ماكرون؟» كانت صحيفة «نيويورك تايمز» قد نشرت مقالا خلاصته «أن فرنسا تقفز اليوم في المجهول»، وذلك على خلفية ألا مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف ولا منافسها الوسطي ماكرون يملكان أي خبرة سياسية يستطيعان أن يحلا المشكلات الكثيرة التي تواجه فرنسا.


بعد فوز ماكرون، وهو أصغر رئيس فرنسي (39 عاماً) منذ نابليون الثالث ابن أخ نابليون بونابرت، كتب أحد المعلقين الفرنسيين أن «ماكرون لا يملك حزبا سوى الحظ المتمثل في أمرين، إفلاس الجمهوريين والاشتراكيين الفرنسيين، والخوف الكبير من وصول اليمين المتطرف إلى الإليزيه».
كان من الضروري والمريح طبعا أن ينتصر ماكرون ليس من أجل فرنسا، وما تمثّله من القيم السياسية والإنسانية، بل من أجل أوروبا والوحدة الأوروبية التي تتوجس شرا منذ «البريكست» الذي أخرج بريطانيا من صفوفها، وأيضا من أجل ضمان عنصر التوازن في العلاقات الدولية، لأن دول الاتحاد الأوروبي يمكنها مهما كانت موازين القوى الكبرى تستطيع أن تفرمل اندفاعات الأحادية واستئثار الثنائية على الساحة الدولية.
كان انتصارا ناجزا للوحدة الأوروبية، لكنه يحتاج إلى ترجمة داخلية سياسية واقتصادية ناجزة تكرّس قيادة ماكرون على الصعيد الداخلي، سياسيا لضبط الوضع بعد حال التفكك التي تعصف بالأحزاب التقليدية في اليسار واليمين التي تحكم منذ ستين عاماً، وكذلك انطلاقا من ضرورة مواجهة الاحتمالات البغيضة للتقدم الذي أحرزه اليمين المتطرف في الدورة الثانية (40 %‏ من الأصوات)، بما يضع مارين لوبان التي رقصت فرحا بالنتائج، على أبواب الإليزيه إذا فشل ماكرون، واقتصاديا لأن فرنسا تواجه وضعا اقتصاديا متراجعا منذ ثلاثين عاماً.
يوم الأربعاء الماضي بدا ماكرون وكأنه يحاول استعارة أدبيات الجنرال شارل ديغول، عندما وجّه بعد ثلاثة أيام على فوزه ولمناسبة «يوم أوروبا» رسالة عبر الفيديو إلى الفرنسيين والأوروبيين على السواء، تعهد فيها بألا يكون رئيسا مكتوف الأيدي «أنا رئيس للجمهورية الفرنسية، وأريد أن تتمكن أوروبا اليوم وغدا من السير إلى الأمام مجدداً، وأن تحترم وعود الأمس لكي تحمل وعود الغد».
وعندما يقول ماكرون في المناسبة، علينا أن نعيد تأسيس أوروبا، وأن نذهب أبعد من ذلك، وأنه لا يريد أن تبقى أوروبا مسمّرة في مكانها إلى الأبد، لأنه يطمح إلى أوروبا مُبادِرة قوية وقادرة على التحدّث إلى أميركا والصين والقوى الأخرى، فإنه بالنسبة إلى كثيرين يبدو كمن يستعجل الرد على كل ما سبق أن قيل ويقال في واشنطن وغيرها عن «القارة العجوز... والعالم القديم»، وما قيل أيضا في موسكو عن نهوض نظرية «الاستقطاب الثنائي» وسقوط عصر العولمة بمفهومه الغربي.
لكن العناصر الضرورية لنجاح وعود ماكرون، تستند أولا إلى نجاحه في فرنسا التي تعاني من خيبات الواقع الذي انتهت إليه الجمهورية الخامسة: يمين منقسم ومتهالك ويسار متداعٍ، ووضع اقتصادي مأزوم صوّرته صحيفة «الغارديان» البريطانية عندما نشرت تحليلا خلاصته أن الاقتصاد الفرنسي لم يحقق في العقدين الماضيين الأداء المطلوب، خصوصا عند مقارنته بالاقتصاد الألماني.
وفي السياق تقول، كانت الدولتان تتمتعان بمستوى معيشة متقدم ومتعادل، أما اليوم فإن مستوى المعيشة في ألمانيا هو أكبر بخمسة أضعاف مما هو عليه في فرنسا، كانت معدلات البطالة في البلدين متساوية (8 في المائة) عند ظهور عملة اليورو الموحدة، أما اليوم فمعدل البطالة في ألمانيا (4 في المائة)، بينما يقترب في فرنسا من (10 في المائة)، ولعل هذا ما يفسّر موقف النقابات العمالية التي تظاهرت بداية الأسبوع احتجاجا على فوز ماكرون، بعدما كانت تحذّر خلال الحملة الانتخابية من «فاشية التطرف والعنصرية» التي تمثّلها لوبان ومن «فاشية المال والمصارف» التي يمثّلها ماكرون الذي كان وزيرا للاقتصاد مع فرونسوا هولاند.
على خلفية هذه التحديات الاقتصادية - الاجتماعية التي ستواجه ماكرون تُطرح أسئلة دقيقة وضرورية: ما المحتوى التفصيلي لشعار «إلى الأمام» الذي اختاره شعارا لحملته الانتخابية وحَمَله أربعة آلاف شاب انخرطوا في حملته وسمّاهم «السائرين»؟ وإلى أين من هنا عندما يقول: «إلى الأمام»؟ وهل لديه أسس سياسية واقتصادية وثقافية اجتماعية يمكن أن تشكّل قاعدة برنامج واضح وطموح ينقل فرنسا من الجمهورية الخامسة التي تبدو مفككة ومدمرة إلى الجمهورية السادسة؟
الذين يطرحون هذا السؤال لا يريدون رفع منسوب التحديات التي ستواجه الرئيس الفرنسي الجديد، الذي ارتاح العالم لهزيمة منافسته لوبان أكثر من راحتهم لفوزه، فالمعروف أنه يأتي من خارج الحياة الحزبية، ولا يملك خبرة وتاريخا سياسيا، لكنهم يراهنون على دور فرنسي لإرساء وسطية سياسية محورية في أوروبا، عندما ينظرون إلى الخريطة السياسية الأوروبية التي تبرز فوقها هذه الأيام وجوه شابة تحمل هذه الوسطية كمنطلق للتغيير، فهناك مثلا رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي، وندّه اليوناني ألكسي تسيبراس، ومثلهما مارك روتيه الهولندي.
وبالعودة دائما إلى السؤال المحوري، إلى أين بعيدا عن اليمين واليسار وفي غياب برنامج واضح حتى الآن، وهل سيتمكن ماكرون من تعميق مسار الاندماج السياسي في فرنسا، وتقوية أدوات السياسة الخارجية والدفاعية؟ وماذا عن قناعاته المعلنة منذ كان وزيرا للاقتصاد بفائدة التوغل أكثر في غياهب حرية السوق، التي تنظر إليها النقابات العمالية بكثير من التوجس وتعتبرها بورصة مفتوحة أمام فاشية حيتان المال؟
للرد على كل هذا من الضروري جدا أن يولي ماكرون وفريق عمله اهتماما عميقا بالرسائل السياسية التي أطلقتها صناديق الاقتراع في الدورة الثانية، حيث تبيّن، أولا أنه كان هناك ورقة بيضاء من كل ثلاث، بما يعني أن ثلث الذين اقترعوا ليسوا من مؤيديه أو مؤيدي منافسته لوبان، وتبيّن ثانيا أن نسبة الممتنعين عن التصويت ارتفعت من 22 في المائة إلى 24.52 في المائة، وهو أمر لم يحصل منذ عام 1969 بين ألان بوهير وجورج بومبيدو، رغم أن كثيرين من اليمينيين والاشتراكيين صوّتوا لماكرون ليس حبا به بل كرها للوبان!
إن مجموع الذي قاطعوا والذين وضعوا أوراقا بيضاء في الدورة الثانية يتجاوز عدد الأصوات التي حصلت عليها لوبان، بمعنى أنها حلّت ثالثة، لكن هذا لا يعني إطلاقا أنها لن تبقى واقفة على أبواب الإليزيه إذا لم ينجح ماكرون في خلق دينامية سياسية جديدة تطلق برنامجا اقتصاديا اجتماعيا يقنع الفرنسيين بفائدة تلك الدعوة للسير «إلى الأمام» التي لم توضّح بعد ماذا يعني هذا الأمام.
ماكرون قال للفرنسيين في خطاب النصر، إنه يدرك أسباب غضبهم وشكوكهم وقلقهم، لكن هذا لا يكفي إن لم يبلور معالم الطريق التي تعيد جمع هؤلاء الفرنسيين المصابين بالخيبة من اليمين المتشظي ومن الاشتراكيين المفجوعين بحصولهم فقط على 6.4 في المائة من الأصوات، ولكل هذا يحتاج الرئيس الشاب إلى ما أكثر من «حزب الحظ» لكي ينجح.
ولعل الامتحان الأول والأصعب الذي سيواجهه هو الانتخابات البرلمانية في 11 يونيو (حزيران) المقبل، التي ستقرر ما إذا كان يستطيع أن يحكم في ظل سلطة تشريعية تعارضه، خصوصا أنها ستكون معركة للثأر منه عند قوى كثيرة!. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .