FINANCIAL TIMES

إيريكا سولومون من أربيل

قبل أن تهاجم ميلشيات داعش القرية التي يعيش فيها أبو حسن في شمالي العراق عام 2014، اتصل به صديق قديم وحثه على الفرار. لكنها لم تكن نصيحة ودية من ذلك الصديق، كما يقول. كانت تهديدا. يقول الراعي الذي يبلغ من العمر 30 عاما: "اتصل ليسخر مني. قال لي: انس أمر أغنامك. وانس دجاجاتك. وانس بيتك".
اليوم، لا يزال أبو حسن الذي طلب عدم استخدام اسمه الحقيقي، غير قادر على استيعاب كيف يمكن لذلك الصديق الذي نشأ معه، أن يدعم الجماعة المتطرفة التي قتلت الآلاف ووصفت طائفة الأقلية التي ينتمي إليها بأنها جماعة كافرة تستحق الذبح. يتساءل قائلا: "بعد أمر كهذا، كيف سيتعايش الناس معا مرة أخرى؟".
في الوقت الذي تدخل فيه المعركة ضد تنظيم داعش في الموصل مراحلها الأخيرة، هذه مسألة يعترك عليها كثيرون في محافظة نينوى المتنوعة، التي تبعد نحو 300 كيلومتر عن بغداد ويعيش فيها ما يزيد على ثلاثة ملايين نسمة.
على مر القرون استضافت نينوى طوائف مسيحية، ويهودا فروا منذ فترة طويلة، وعربا من المسلمين السنة والشيعة، وأكرادا، إضافة إلى أقليات أصغر حجما، مثل التركمان والأيزيديين وطائفة الشاباك التي ينتمي إليها أبو حسن. كانت هناك فترات من الصراع، لكن قلة منها كان لها هذا الطابع الكارثي، مثل التي بدأت في حزيران (يونيو) 2014، عندما استولت ميليشيات داعش على الموصل واجتاحت شمالي العراق وسورية.
القوات العراقية المتقدمة، المدعومة من تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة، شنت هجوما جديدا الأسبوع الماضي في آخر مناطق الموصل، العاصمة الإقليمية لنينوى، حيث يستعد عدة مئات من متطرفي "داعش" للبدء في قتال حتى الموت. ويعتبر الانتصار الحكومي المفترض على مدى الأسابيع المقبلة أمرا مهما وحاسما جدا في تسديد الضربة القاضية لسيطرة "داعش" على الأراضي العراقية، حيث لديه الآن بضعة مواقع متبقة. 
من المحتمل أن تقدم واشنطن وحلفاؤها الدعم للعمليات الأمنية العراقية حتى بعد أن يتم طرد تنظيم داعش. لكن هذا الدعم وحده لن يساعد في حل لغز كيف أن نينوى، وربما كل العراق، ستتمكن من معالجة الآثار التي خلفها المتطرفون. إذا لم يستطع البلد تعزيز التعايش السلمي بين فئاته المختلفة، ربما يجد حلفاء بغداد أنها ستغرق في الصراع مرة أخرى.
يقول أحد مسؤولي مجلس نينوى، الذي طلب عدم ذكر اسمه: "بالطبع لم ينته الأمر بعد (...) ستصبح المعركة بين كل طائفة وأخرى، أو بين كل حزب وآخر، وجار ضد جاره. القتل سهل، لأننا لم نفرض الحكم هنا. ليس هناك نظام".
نينوى، ثاني أكبر محافظة في العراق، غنية بالنفط والأراضي الخصبة. لكن المزيج العرقي المعقد فيها يعني أن من الصعب إيجاد حل للصراعات التي حدث كثير منها قبل قدوم تنظيم داعش، ومن السهل نسبيا إشعالها. قبل نحو قرن من الزمان، عندما رسم الضابط البريطاني، تي إي لورنس، خريطة يستكشف من خلالها التقسيم الاستعماري للشرق الأوسط استنادا إلى الجماعات العرقية، أضاف علامتي استفهام بالنسبة لنينوى، وهما علامتان لا تزالان قائمتين حتى يومنا هذا.
غالبا ما يوضع العراق في إطار يرى أنه دولة مقسمة بين الأغلبية من العرب الشيعة، والعرب السنة، والأكراد الذين يمتلكون منطقة ذات حكم شبه ذاتي في الشمال. الحقيقة أكثر تعقيدا بكثير، والتنوع في نينوى دليل على ذلك. وما إذا كانت المحافظة قادرة على استعادة الاستقرار، فإن هذه قضية اختبار مهمة لجميع مناطق العراق.
يقول إدريس ميرزا، رئيس الحركة الديمقراطية الآشورية، وهي حزب مسيحي: "الوضع بعد خروج "داعش" سيكون أكثر خطورة من الوضع في وجود "داعش" هنا. إذا كانت كل قوة سياسية في العراق ترغب في حماية مصالحها الشخصية ومصالح مؤيديها، حينها سنخسر المعركة ولن نتمكن أبدا من استعادة بيئة آمنة هنا".

الهجوم المضاد

تبين قصة أبو حسن كيف تكافح المجتمعات من أجل تحقيق التوافق. فهو من الفئة الشيعية في أقلية الشاباك التي تضم أيضا فئة سنية. والصديق الذي أنذره من السنة.
بعد هروبه من منزله، انضم أبو حسن لقوات الحشد الشعبي، وهي جماعة شبه عسكرية معظم أفرادها من الشيعة. وتتلقى معظم تلك الجماعات الدعم من إيران ويخشاها السنة، لكن إصرارها على أن تكون حاضرة في أماكن حساسة مثل نينوى أدى إلى تفاقم التوترات الطائفية.
أثناء رجوعه مرة أخرى إلى قاعدته بعد زيارته لقريته المحررة التي تعرضت للنهب والحرق الآن يقول أبو حسن إنه لم يسأل قط عن مصير صديقه القديم. يقول: "لا أهتم بذلك ولا أحتاج أن أعرف ما إذا كان حيا أم ميتا".
مع ذلك، يشعر بأنه مضطر ليذكر كيف عانى ذلك الصديق سوء المعاملة بسبب الطائفية على أيدي قوات الأمن، مستذكرا كيف أنهما قدما معا رشوة إلى ضابط شرطة لتأمين إطلاق سراح شقيق ذلك الرجل من السجن. أصبحت الموصل معقلا للتمرد السني بعد غزو أمريكا للعراق عام 2003 الذي أطاح بنظام الرئيس صدام حسين الذي كان قد منح أهل السنة اليد العليا. وواجه كثير من السكان معاملة قاسية وتعرضوا للاعتقال من قبل القوات التي يسيطر عليها الشيعة.
يقول أبو حسن: "صدقا، رغم أنني من الشيعة، إلا أن ما يقولونه صحيح: كان الجيش في الموصل طائفيا. مارسوا إذلال الناس عند نقاط التفتيش واعتقالهم دون سبب. كانوا يطالبون برشا. أعتقد أن علينا الاعتراف بأن هذا الأمر لعب دورا في سقوط الموصل: وأدى إلى دفع الناس لكي يلجأوا إلى "داعش".
يقول السنة إنه لم يكن أمامهم أي خيار. في صيف عام 2014 هربت كل من قوات الأمن العراقية ووحدات البشمركة التابعة لإقليم كردستان من هجمات تنظيم داعش. وفي الوقت الذي اجتاحت فيه ميليشيات التنظيم المتطرف نينوى، دمرت الآثار القديمة والمزارات التاريخية. وذبحت الشيعة واسترقت النساء من الطائفة الأيزيدية. والسنة "المرتدون" الذين وقفوا في وجههم تم إعدامهم في حملة وحشية هزت المنطقة بأكملها.
تمكنت القوات الحكومية العراقية والكردية من استعادة معظم الأراضي العراقية - تستولي داعش الآن على 7 في المائة من الأراضي فقط. لكن يجري تقويض المحاولات الرامية إلى استعادة النظام بسبب التنافس الموجود منذ فترة طويلة - لاسيما بين بغداد وحكومة إقليم كردستان شبه المستقلة في أربيل، اللتين تخوضان نزاعا مريرا على الأراضي، بما في ذلك أجزاء من نينوى.
وعملت المناورات على تكثيف مجموعة محيرة من الصراعات الطائفية. ففي آذار (مارس) الماضي هاجمت قوات كردية مدعومة من الحكومة الإقليمية الكردستانية قوة تابعة للطائفة الأيزيدية في إقليم سنجار الواقع في المنطقة الشمالية الغربية من نينوى، التي كانت بدورها مدعومة من قبل طائفة كردية منافسة تدعمها بغداد. وبالتالي اضطُر آلاف الأيزيديين المشردين أصلا بسبب "داعش" إلى الفرار مرة أخرى.
وتعمل مثل هذه الحوادث على جعل القوى الأجنبية حذرة من التورط. وبحسب مايكل نايتس، وهو محلل مختص بالعراق يعمل لدى معهد واشنطن، طبيعة تلك الصراعات المعقدة والمحلية تجعل من الصعب التوصل إلى حلول أوسع.
يقول: "إذا اشترك المجتمع الدولي في حل تلك المشكلة في إقليم سنجار أو أي مكان آخر، سيكون هناك عدد لا بأس به من الخاسرين. التحكيم هو ما تريده الأقليات، وهذا قد يحتاج تحولا عقليا وفكريا كبيرا للعودة إلى أيام التحكيم الأجنبي".
مع ذلك، تعمل تلك الصراعات على تقسيم المجتمعات التي بعضها، مثل التركمان، كان يعاني بالأصل بسبب الصراع الطائفي الداخلي قبل وصول الجماعة المتطرفة. يقول لقمان الراشدية، عضو مجلس إدارة نينوى من الطائفة التركمانية: "وصل الأمر إلى حد قتل الأخ أخاه، أو قتل الابن والده. هذا كان قبل وصول "داعش" ما الذي يحصل الآن؟".

الجثث المنتفخة

يواجه العرب السنة، أيضا، عقابا جماعيا. على طول نهر دجلة المتعرج عبر الموصل وفي الريف الجنوبي، حيث يشكل السنة الأغلبية، يجري جمع الجثث المنتفخة كل أسبوع من على ضفاف النهر، التي تم بتر أعضائها من قبل مهاجمين مجهولين.
يقول معظم المسؤولين العراقيين إن الجزء الأكبر من أفراد تنظيم داعش المحليين جاؤوا من هذه المنطقة الريفية الفقيرة، ويشتبهون الآن في أن القوات الأمنية والأفراد الساخطين على المجتمع السني يمارسون الانتقام بكل هدوء.
وبحسب عضو مجلس المحافظة الذي طلب عدم الكشف عن هويته: "لا أحد يشعر بالخجل أو الخوف (...) لأنه ليس هناك أي رقيب". والهم الأكبر بالنسبة له هو أنه سيتم طرد آلاف الناس المرتبطين بأعضاء تنظيم داعش. "أين سيذهبون؟ من سيتقبلهم؟ نحن نطرح هذا السؤال بقوة. فلا توجد أي منطقة ترغب في استضافتهم".
ويحذر آخرون من أن الذين بقوا تحت تنظم داعش سيكون من الصعب التحكم فيهم بعد سنوات من الصدمات والتكيف تعلموا خلالها البقاء على قيد الحياة دون حاجة إلى بغداد.
يقول أثيل النجيفي، الحاكم السابق لنينوى، الذي أصبح مصدرا للخلاف: "إنهم أشخاص مختلفون الآن فيما يتعلق بالطريقة التي يفكرون بها. فقد تغيرت كثير من التقاليد، وتغيرت الطرق التجارية، وتغيرت الأساليب الإدارية". وهو فر من "داعش"، لكنه متهم الآن من قبل بغداد بالتواطؤ مع الجماعة، الأمر الذي ينفيه.
تحت سلطة "داعش"، تلاعب السكان المحليون في الموصل في المولدات الكهربائية. وحفروا الآبار الخاصة بهم للحصول على المياه التي غالبا ما يتبادلونها مجانا مع الجماعات المجاورة. وتم تغيير مسارات الطرق التجارية إلى سورية لأن باقي مناطق العراق كانت مغلقة.
ويطلب منهم الآن الانضمام مرة أخرى إلى البلد الذي تعترك فيه الحكومة مع الفساد، والاقتتال الداخلي السياسي، وأزمة اقتصادية تسبب فيها كل من الحرب المكلفة ضد التنظيم المتطرف وانخفاض أسعار النفط في بلد يمتلك ثاني أكبر احتياطيات في العالم. حتى الخدمات الأساسية، مثل جمع النفايات، أصبحت مفقودة ما يجعل من الصعب إصلاح العلاقة المنقطعة مع بغداد.
يقول الراشدية: "الحكومة في نينوى، بمن فيهم أنا، ضعيفة. إذا بقيت الإدارة على هذا الحال، لن نكون قادرين على إدارة هذه المحافظة".
برامج المصالحة التي تشجع عليها بعض الوكالات الإنسانية ووكالات المساعدات، مرفوضة من قبل كثير من العراقيين. يقول أحد المسؤولين في بغداد في محافله الخاصة تم إنشاء عدة لجان للمصالحة لكن نتائجها كانت مخيبة للآمال. في إحدى الاتفاقيات التي تشمل بلدة يثرب في الوسط، يقول إن اللجنة دفعت ملايين الدنانير العراقية إلى قبائل الشيعة من أجل السماح بعودة السنة المرتبطين بـ"داعش"، لكن الذي حدث هو أنهم أخرجوهم بعد ذلك ببضعة أشهر. 
ويضيف الراشدية أن بعض السياسيين يحبطون مثل هذه الاتفاقيات من أجل حماية مصالحهم الخاصة. "يرى بعض الزعماء من الشيعة والسنة أنه إذا كانت هناك مصالحة فإنهم سيفقدون نفوذهم". 

عبء التاريخ

هناك اتفاق شبه شامل بين المحليين على أنه يجب إعادة هيكلة نينوى لكن لا يوجد إجماع على كيفية تحقيق ذلك. يُريد بعض المسؤولين تقسيم المنطقة إلى مقاطعات أصغر، ترتبط إما ببغداد أو أربيل، للسماح لمختلف المجموعات بإدارة نفسها. آخرون يريدون تشكيل منطقة فيدرالية مثل حكومة إقليم كردستان.
ومن بين أقوى دُعاة الخيار الفيدرالي السياسي المسيحي روميو هاكاري، من حزب "بيت النهرين الديمقراطي". حتى قبل بروز التمرد الجهادي ونزوح المسيحيين في فترة ما بعد عام 2003، يذكر هاكاري سلسلة من المظالم مع المجتمعات المجاورة تعود إلى الإمبراطورية العثمانية.
يقول، متماهيا بشكل أكبر مع عرقه المسيحي الآشوري: "كوني عراقيا لا يعني أي شيء بالنسبة لي. الناس يدعونني عراقيا، لدي جواز سفر عراقي، لكنني لست سعيداً بكوني عراقيا".
عزت عزيز، مهندس مسيحي أشيب في الستينيات من العمر، يتتبع جذور عائلته في الموصل لعدة قرون. لكن عندما هاجمت "داعش"، كانت عائلته بحاجة إلى بضع دقائق فقط للفرار. لقد أصبحوا معتادين على مواجهة الهجمات الطائفية خلال العقد السابق حيث إنهم احتفظوا بحقائب مُعبأة وجاهزة للمغادرة في حال اضطروا لذلك.
تعيش عائلة عزيز اليوم في شقة صغيرة في مدينة دهوك، على بُعد 70 كيلومتر شمال الموصل، بانتظار اليوم الذي يُمكنهم فيه العودة إليها. يقول: "ليس من السهل التخلّي عن كل شيء والمغادرة. هذا كان موطن أجدادنا، لقد نشأنا هناك".
بالنسبة لآخرين، ذلك التاريخ أصبح عبئاً. يتساءل مثنى ساكاريا، مقاتل الميليشيا المسيحي، في الوقت الذي يتفقد فيه منزله المليء بآثار الرصاص في بلدة قراقوش، حيث مرواح السقف المنصهرة تتدلى مثل أزهار ذابلة: "إذا عُدنا وأعدنا البناء، ماذا بعد ذلك؟ قبل مئات الأعوام، كان الأكراد هم الذين يهاجمون المسيحيين. 
هذه المرة، السنة. في المرة المُقبلة - من يعرف؟"