حازم صاغية

في 1970 فارقت الحياةُ جمال عبدالناصر وهو في الثانية والخمسين. الشاعر السوريّ نزار قبّاني سمّاه، حين رثاه، «الهرم الرابع». موته بدا شبيهاً بانهيار الأهرامات التي تصمد للزمن، أو ربّما الأسوار التي تحمي المدن من أخطار مهلكة. الجماهير التي نزلت إلى الشوارع تنتحب وتصرخ، كانت تعلن أنّها فقدت أباها الهرم أو أباها السور.

بموته لاحت للأبناء فرصة العيش من دون أب، فرصة البلوغ والحرّيّة. لكنّ رحيل عبدالناصر لم يكن كافياً للإنضاج. ذاك أنّ الناصريّة، أو بالأحرى شقيقاتها الصغيرات، تكاثرت أعدادهنّ «بين المحيط والخليج».

معركة الوراثة في مصر حُسمت لمصلحة نائبه أنور السادات. علي صبري، رجل السوفيات وبيروقراطيّة «الاتّحاد الاشتراكيّ»، خسر المنافسة. نائبه الآخر حسين الشافعي كان مشغولاً عن السياسة بالصلاة.

مسار السادات اللاحق نمّ، ولو متأخّراً، عن أحد أكبر العيوب الناصريّة. فالوريث سريعاً ما غادر نهج عبدالناصر. غادره في نهجه الاقتصاديّ كما في تحالفاته الدوليّة. لقد طعن الظلّ أصله. انعطافه عن سيّده بدا أكبر من انعطاف نيكيتا خروتشوف، قبل عقد ونصف، عن سيّده ستالين. كذلك بدا أسرع وأشدّ ضجيجاً من تحوّل دينغ هشياو بنغ عن الماويّة بعد نحو من عقد على التحوّل الساداتيّ.

لكنْ كيف يقدم على خيانة عبدالناصر أقرب المقرّبين إليه، والذي كتب لابنه «يا ولدي، هذا عمّك جمال»؟

كان واضحاً في النزع السريع للسلف، الذي أقدم عليه الناصريّ أنور السادات، أيّ ديكتاتور كانه عبد الناصر. ومع الديكتاتور، لا تنشأ إلاّ صلة الامتثال والتبعيّة التي لا تحتمل المصارحة، ناهيك عن الاختلاف والنقد. بالتقيّة إذاً، لا بالقناعة، حفظ السادات رأسه قرابة 18 سنة. فما إن رحل الزعيم، حتّى رفع التابع رأسه المؤجّل وقال ما فيه.

 

الموتان السياسيّان

عبدالناصر مات بيولوجيّاً يوم 28 أيلول (سبتمبر). حصل ذلك في ذكرى موته السياسيّ الأوّل. ففي اليوم ذاته من 1961 انفصلت سوريّة عن «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة» التي جمعتها بمصر. كان ذلك الحدث هزيمة قاسية جدّاً للزعيم المصريّ ولأفكار القوميّة والوحدة العربيّتين. إنّه الجرح الذي لم يدمله إلاّ جرح آخر أكبر منه: هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967.

الهزيمتان الهائلتان اللتان حصدهما في غضون ستّ سنوات، ومعهما التورّط العميق والمكلف في اليمن، أوحت أنّ الرجل لم يكن هرماً رابعاً ولا هرماً أربعين. هكذا كان حاله في الشعر فحسب. مع ذلك، فالهزيمتان لم تشجّعا أنور السادات، أو أيّ أنور سادات آخر، على مساءلته، وعلى تحمّل ما تحمّله دينغ من جرّاء تحفّظه على سياسات ماو. والهزيمتان أيضاً لم تُضعفا الرغبة في تقليد النموذج الناصريّ: في 25 أيّار (مايو) 1969 استولى على السلطة في الخرطوم ضابط سودانيّ شابّ اسمه جعفر نميري وصف نفسه بأنّه ناصريّ. في 1 أيلول (سبتمبر) من العام ذاته، استولى على السلطة في طرابلس ضابط ليبيّ شابّ اسمه معمّر القذّافي وصف نفسه، هو الآخر، بأنّه ناصريّ. تقليد الزعامة المهزومة بدا على أشدّه عند شبّان ناهدين إلى المجد والعظمة! القدرة على الرؤية والتمييز بدت مشوّشة كثيراً، فيما السؤال المخيف الذي لم يُسأل: أيّة عبادة كانت لتكلّل رأس عبدالناصر لو أنّه حصد نصرين بدل الهزيمتين؟

لكنّ حدثاً آخر أحاط برحيل الزعيم المصريّ. ذاك أنّ النوبة القلبيّة وافته بعد انتهاء قمّة عقدتها الجامعة العربيّة في القاهرة لفضّ النزاع الناشب بين السلطة الأردنيّة ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة. لقد شهد عام 1970 حرباً أسماها الفلسطينيّون «أيلول الأسود» امتدّت شظاياها، في جرش وعجلون، إلى 1971.

 

«الساحة» الأردنيّة

العودة قليلاً إلى الوراء قد تفيد. في 24 نيسان (أبريل) 1950 ضمّ الأردنُ الضفّة الغربيّة إليه. هذه الوحدة بدت الأنجح، بالقياس إلى المحاولات الوحدويّة العربيّة السابقة عليها واللاحقة. لكنّ صعود الناصريّة في 1956 وانسحار الفلسطينيّين بها وتّرا العلاقات بين الجماعتين. تشكيل حكومة السياسيّ الفلسطينيّ المتعاطف مع القاهرة سليمان النابلسي، ومحاولة انقلاب علي أبو نوّار و «الضبّاط الأحرار»، قرّبا التحدّي الناصريّ من قصر بسمان. جماهير المدن العربيّة عصف بها الهياج فراحت تهتف تحريضاً على حسين وشماتةً بنوري السعيد الذي مُزّق جسده إرباً إرباً بعد انقلاب 1958 في العراق:

«يا عمّان ثوري ثوري

خلّي حسين يلحق نوري»

الأسباب لم تكن اجتماعيّة ولا حتّى سياسيّة بأيّ معنى حديث للسياسة. كانت من الصنف المسمّى قوميّاً الذي لا يُترجَم إلاّ أهليّاً: «إخوة» يُذلّون «إخوة». «إخوة» يتسلّحون و «إخوة» يخافون من سلاحهم.

التوتّر ما إن هدأ قليلاً حتّى عاد إلى التصاعد في 1963: البعث استولى على بغداد ودمشق وبدأ يهدّد علناً بخنق عمّان. في أواسط الستينات، مع تأسيس «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، تصاعد التدهور. التسلّح الفلسطينيّ، بعد 1967، خلق ازدواجيّة في الحكم. «انتصار» معركة الكرامة في آذار (مارس) 1968 أريد استثماره قضماً لسلطة الملك.

في أيلول 1970، إذاً، حصل الانفجار. جاء مسبوقاً بمحاولة اغتيال لحسين، وبشعارات تدعو إلى إطاحة نظامه، وبصدامات متفرّقة في الشوارع والمناطق، وأخيراً بخطف «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» عدداً من الطائرات المدنيّة إلى «مطار الثورة» قريباً من مدينة الزرقا. العمليّة الإرهابيّة الأخيرة أطلقت الشياطين من عقالها.

1970 الأردنيّ– الفلسطينيّ كان نذيراً مبكراً بأنّ العلاقات الأهليّة في المشرق سيّئة جدّاً. بأنّ «القضيّة القوميّة» في شعاريها المركزيّين، «الوحدة العربيّة» و «تحرير فلسطين»، وصفةٌ لتفجير تلك العلاقات، ولتصديع الدول الناشئة، خصوصاً متى كانت صغرى.

الأردن لم يعد وطناً. صار «ساحة». القضيّة الفلسطينيّة صارت أقصر الطرق إلى النزاعات الأهليّة. العلاقات الأردنيّة – الفلسطينيّة تآكلها السمّ والكراهية. المدنيّون الفلسطينيّون باتوا ضحايا الانتقام غبناً وتمييزاً ضدّهم. البداوة الشرق أردنيّة، في دفاعها عن البلد والنظام، ظهرت دليلاً ظافراً إلى المستقبل!

 

انتخاب سليمان فرنجيّة

شيء من هذا القبيل حصل في لبنان 1970. الحدث لم يكن دمويّاً كالحدث الأردنيّ، لكنّه كان يعد بدم آتٍ. بدم أكثر.

في 17 آب (أغسطس)، وبفارق صوت واحد، انتُخب سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة. المهزوم كان المرشّح الشهابيّ، والرئيس اللاحق، الياس سركيس.

فرنجيّة انتمى إلى منطقة طرفيّة لم يسبق أن زوّدت الدولة برئيس للجمهوريّة. اقتصادها كان لا يزال يترجّح بين الرعويّ والزراعيّ والتهريب. تعليم فرنجيّة كان بسيطاً على عكس سابقيه من الرؤساء. طباعه كانت ناريّة في بلد التسويات. رصيد فرنجيّة ارتكابه مذبحة في كنيسة بلدة مزيارة عام 1957. في 1969، وكانت المقاومة الفلسطينيّة توسّع حضورها المسلّح في لبنان، أسّس «جيش التحرير الزغرتاويّ»، نسبةً إلى المنطقة التي صدر عنها. في 1970، حين نوى الترشّح للرئاسة، رفع شعاراً شوفينيّاَ سمجاً تردّد أنّ غسّان تويني كان طابخه: «وطني دائماً على حقّ».

قرار «المارونيّة السياسيّة» تأييد فرنجيّة جاء ردّ فعل: فؤاد شهاب، وفاءً لتحالفه مع عبدالناصر، أهداه سياسة لبنان الخارجيّة على طبق من ذهب. في الداخل، همّش شهاب السياسيّين الموارنة، وعبر تدخّل أجهزته في الانتخابات، أُسقط أبرزهم: كميل شمعون وريمون إدّه. الأخيرون فركوا أيديهم فرحاً لهزيمة الناصريّة في 1967. بعد عام، شكّلوا «الحلف الثلاثيّ» واكتسحوا مقاعد جبل لبنان.

لكنّ الثأر المارونيّ اصطدم بالمقاومة الفلسطينيّة التي طرحت على لبنان التحدّي نفسه الذي طرحته قبلاً على الأردن. المسلمون انحازوا إلى المقاومة. الموارنة قرّروا أن لا يكونوا العاشقين الوحيدين للدولة. شرعوا يشكّلون ميليشياتهم وانتخبوا للرئاسة رئيساً ميليشياويّاً. كانت حكمتهم: بمثل هؤلاء لا يليق إلاّ هذا.

ردّ الفعل على الفعل السيّء قد ينتهي أسوأ منه. سليمان فرنجيّة في قصر بعبدا كان يعني أمراً واحداً: نقل التفتّت من المجتمع إلى الدولة. في 1970، بدا واضحاً للّبنانيّين الأعرف والأذكى أنّهم على مشارف حرب أهليّة.

 

البعث دوماً وأبداً

في 1968 وصل البعث العراقيّ إلى السلطة برفقة ضبّاط غير بعثيّين ما لبث أن تخلّص منهم. انقلابه كان ينطوي على بُعد ثأريّ مؤكّد: ففي 1963 سبق للبعث أن استولى على السلطة بانقلاب ثمّ، بعد ثمانية أشهر، أطيح بانقلاب. طويلةً كانت لائحة الذين غدروا به وبات عقابهم واجباً عليه.

كان ينبغي تهدئة الأكراد في الشمال لتمكين القبضة البعثيّة في بغداد. المشانق عُلّقت في الساحات العامّة لـ «جواسيس» و «خونة». الاغتيالات ازدهرت. السجون والزنازين عجّت بالنزلاء. أمّا الأكراد فبدأ التفاوض معهم.

في 11 آذار 1970، توصّلت حكومة بغداد وقيادة مصطفى البارزاني إلى معاهدة تقضي بإقامة منطقة حكم ذاتيّ في المحافظات التي يشكّل الأكراد أكثريّتها، ومنحهم تمثيلاً عادلاً في السلطة المركزيّة. المعاهدة وُصفت بأنّها اختراق للتاريخ وتوسيع لرقعة الأخوّة. إنّها، وفقاً للإطناب الإنشائيّ، الأمل بعد يأس، والفجر بعد ليل طويل.

العمل بها كان يُفترض أن يسري خلال أربع سنوات. لكنْ بعد أربعة أشهر انطلق زخم التعريب، لا سيّما في كركوك وخانقين الغنيّتين بالنفط والمتنازَع على هويّتهما.

رفع التوقّعات الكاذبة إلى السماء جعل الهبوط إلى الواقع قويّاً ومؤلماً جدّاً. الأكراد سريعاً ما أحسّوا أنّهم مُستهدَفون بسياسة تجمع بين القضم التدريجيّ والتطويق. توقيع «سيادة النائب» صدّام حسين لا يفعل إلاّ إضعاف الثقة بصدقيّة المعاهدة التي كانت تدخل موتها السريريّ. بعد أربع سنوات تجدّدت الحرب بين سلطة بغداد وأكراد العراق.

لقد برهن انهيار الاتّفاق الموقّع في 1970 أنّه يستحيل على سلطة بعثيّة أن تتعامل بجدّ مع مسألة الأكراد، ومع أيّ مسألة تخصّ النسيج الوطنيّ، بغير الصهر والإخضاع. أمّا الأكراد، الذين سبق أن قاتلهم عبدالكريم قاسم والبعثيّون وعبدالسلام عارف، فتأكّدوا من صحّة قولهم الأثير: لا صديق لنا سوى الجبال.

 

إنّه حافظ الأسد!

في سوريّة البعثيّة ازدحمت وجوه العفن: ولد الزعيم المطلق الزعامة في 1970، وإلى الأمام اندفع التطابق بين السلطة والتكوين الأهليّ. القمع وحده هو ما يضمن استمرار التعايش بين هذين البعدين: تماسك الدولة في الظاهر، وتذرّر المجتمع في الباطن.

عامذاك، وفي 16 تشرين الثاني (نوفمبر) تحديداً، حُسم الصراع داخل السلطة البعثيّة بين صلاح جديد وحافظ الأسد. التدخّل في حرب الأردن كان السبب المباشر الذي انضاف إلى أسباب أخرى تطاول علاقة الحزب بالجيش، والسياسات الاقتصاديّة، والعلاقات العربيّة والدوليّة لسوريّة.

ومع «الحركة التصحيحيّة» التي شنّها الأسد، بدأ عهد جديد تعدّدت أطواره وأشكاله، إلاّ أنّه أسفر عن نتائج ستّ كبرى: الحكم صار أكثر طغياناً واستبداداً وجهازيّةً. الحاكم صير إلى تأليهه على نحو غير مسبوق. الطائفيّة صارت أشدّ استفحالاً. التفاوت الاقتصاديّ، وبلا قياس، فاق أيّ وقت سابق. الحرب الأهليّة في المشرق صارت نظاماً. الصراع مع إسرائيل صار، منذ 1973، يجري بالواسطة، لخدمة استقرار مفروض بالقوّة على السوريّين.

ما بدأ في 1970 كانت نتيجته المنطقيّة توريث النجل بشّار الأسد في 2000. الأسد الأب رحل. الأسديّة حوفظ عليها ولا تزال مقيمة بيننا إقامة أشباح الموت المتجوّلين. لقد سجّلت سوريّة الأسديّة، في القرن العشرين، أنّها البلد الثاني في التوريث الجمهوريّ بعد كوريا الشماليّة. لكنّها، في القرن الحادي والعشرين، باتت البلد الأوّل في القتل والتهجير اللذين يُنزلهما حاكم بشعبه.

 

اليمن «الديموقراطيّ»: حزب واحد

هذه المسيرة العربيّة انطوت على قاسمين مشتركين: شيوع الثأريّة التي جدّدت نزعة قبليّة قديمة وأدلجَتْها، وترافق سيرورتي بناء الزعامة المطلقة والإمعان في تفتيت المجتمع مع انتفاخ أيديولوجيّ يتعالى عن «الصغائر» التي تُنجبها هاتان السيرورتان. الاشتراكيّة، التحرير، الوحدة...، خدمت هذه الوجهة بكفاءة منقطعة النظير. الصداقة مع الاتّحاد السوفياتيّ، مُصدّر السلاح الذي لا يملك غيره للتصدير، ومُصدّر أنظمة الرقابة والتعذيب، فعلت فعلها أيضاً.

اليمن الجنوبيّ، الذي أسمى نفسه اليمن الديموقراطيّ، كان رائداً على هذا الصعيد. في الشهر الأخير من 1970، أي بعد سنة ونصف على استيلاء «الجبهة القوميّة» على البلد، أصبح اليمن الجنوبيّ «ديموقراطيّة شعبيّة». القوى الحزبيّة والسياسيّة كلّها صُهرت في «جبهة تحرير وطنيّ». «الجبهة القوميّة» سُمّيت «الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ» الذي أُعلن الحزب الشرعيّ الأوحد. دستور ألمانيا الشرقيّة، بلد الستازي، استُخدم مسوّدةً لكتابة الدستور.

لهذه التحوّلات مُهّد باعتقال قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف، قائدي النضال الاستقلاليّ ضدّ البريطانيّين: أوّلهما، وكان قد سُمّي أوّل رئيس جمهوريّة للدولة المستقلّة، أودع الزنزانة حتّى 1981 حين أعلنت الدولة وفاته. الثاني اغتيل في زنزانة مجاورة بُعيد اعتقاله. بضعة «رفاق» أبرزهم عبدالفتّاح إسماعيل وسالم ربيّع علي وعلي ناصر محمّد وعلي عنتر جلسوا على صدر اليمن الجنوبيّ. في السنوات التالية تكشّفوا عن جزّارين صغار يقتل واحدهم الآخر. أمّا الدرس اليمنيّ الأبرز فأنّ الأيديولوجيا القصوى قتلٌ أقصى.

لقد كان رحيل عبد الناصر، مؤسّس الأبوّة الصلدة، فرصة للعرب كي يعيشوا من دون أب. ما حصل أنّ الآباء تناسلوا تناسل الفئران. الفارق، الذي يعزّزه اختلاف مصر عن بقية البلدان، أنّهم، وقد تسنّموا سدّة الأبوّة المفتّتة، ظلّوا مجرّد أبناء أشرار ومجرمين تافهين.