خالد غزال

ارتفعت وتيرة الكلام من قبل ميليشيات شيعية في العراق عن أن هدفها الأساسي ومعها إيران ليس إقامة الهلال الشيعي بل البدر الشيعي، الذي يشمل هذه المرة المنطقة العربية بمعظمها من بلاد الشام الى الجزيرة العربية. يترافق الكلام مع تكرار قادة إيرانيين، عسكريين ومدنيين، الحديث عن احتلال إيران لأربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، مما يعني امتداد النفوذ الإيراني الى شواطئ المتوسط وباب المندب. بصرف النظر عن صحة ودقة الكلام المنسوب الى إيران وميليشياتها، فصدوره لا وظيفة له سوى تسعير الحرب المذهبية بين الشيعة والسنة، والإعلان صراحة عن تواصلها الى أمد غير منظور.

يعود الصراع المذهبي المندلع حالياً الى زمن يمتد الى خمسة عشر قرناً سبقت، وهو لم يكن قائماً على خلاف في العقيدة وعن أي طرف يمثل الإسلام الصحيح، بل كان على السلطة والنفوذ واقتسام الموارد. 

هذا الصراع السياسي– الاجتماعي ألبسته قوى الصراع طابعاً أيديولوجياً ودينياً بما يكسبه زخماً في التعبئة ويجعله متوهجاً في شكل دائم. دفعت الشعوب الإسلامية والعربية غالياً من الضحايا ثمناً لهذه الصراعات. 

وظلت تدفعه في كل محطة من محطات تجدد الخلافات بين المذاهب. لذا لا ينبع التحريض المذهبي الذي تشهده المنطقة العربية من فراغ، بل هو متجذر في الوجدان الإسلامي وقابل بسرعة لنفخ النار فيه. وهو تحريض تتلاقى فيه التنظيمات الإسلامية المتطرفة التي تدعي انتساباً الى المذاهب السنية، بنفس المقدار الذي تحمله تنظيمات وميليشيات تنتسب الى المذهب الشيعي. المسؤولية عن تسعير الصراع المذهبي مشتركة بين هذه الأطراف.

في العودة الى حديث الهلال والبدر، لا بد من استحضار السياسة الإيرانية ومسؤوليتها في تصاعد الحرب المذهبية، سواء عبر قياداتها المباشرة او عبر ميليشياتها. لم تكن السياسة الإيرانية التدخلية في المنطقة العربية قائمة بالزخم نفسه قبل اندلاع الانتفاضات العربية. شكلت هذه الانتفاضات المدخل الذي أتاح لإيران أن تمد أذرعها الى مناطق النزاع. لا يمكن إنكار ما هو كامن في الأهداف الإيرانية تجاه المنطقة التي تعتبرها بمثابة المدى الحيوي للأمبراطورية الفارسية، حيث ترى إيران حقوقاً لها في هذه المنطقة، تعود الى زمن الشاه الذي احتل جزراً في الخليج، وكرست الجمهورية الإسلامية هذا الاحتلال، بل طالبت أكثر من مرة بمملكة البحرين واعتبرتها جزءاً من الإمبراطورية الفارسية.

في سياستها تجاه المنطقة العربية، توسلت إيران التحريض المذهبي مستعيدة ذلك الصراع القديم بين المذهبين السني والشيعي. هذه الاستعادة ألهبت نفوساً شحنت بمنطق الانتقام عما حصل في سياق الخلافة قبل خمسة عشر قرناً، بحيث اعتبرت إيران أن الوقت حان للثأر، وهو لا يتحقق إلا باستبدال هيمنة سنية بهيمنة شيعية. 

لذا تدخلت إيران في معظم بلدان الانتفاضات خصوصاً في العراق وسورية واليمن، فشكلت فيها الميليشيات ودعمتها بالمال والسلاح، وأججت نيران الحرب المذهبية فيها، ونجحت في تحويل الحروب الدائرة الى حروب طائفية. ولم تخف تصريحات قادتها طبيعة الأهداف الحقيقية، ليس أقلها تلك التصريحات الفجة من مسؤولين إيرانيين عن أن «بغداد أصبحت مركز الأمبراطورية الإيرانية الجديدة». 

ولعل هذا التصريح لأحد قادة الحرس الثوري قاسم سليماني أبلغ دليل على التوجهات الإيرانية، حيث يقول: «منذ العام 40 هجري عندما قتل الإمام علي، حكم بنو أمية لمدة 80 عاماً، وبنو العباس 600 عام، والعثمانيون 400 عام، ولم يكن لدى الشيعة الجرأة بإظهار وجودهم وعقائدهم، وإن إحياء المذهب الشيعي بقيادة إيران يعطي لإيران القوة في الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية».

لم يكن يحتاج التسعير المذهبي المندلع في كل مكان الى إدخال قضية «المهدي المنتظر» في هذا الصراع، بما يعطيه بعداً عقائدياً، ويدخله في صلب الصراع السياسي القائم. فمسألة المهدي المنتظر ليست قضية إسلامية، بل هي موجودة لدى جميع الأديان منذ أن وجدت البشرية، سواء أكانت هذه الأديان توحيدية أم غير توحيدية. 

وقضية المهدي قضية إيمانية وليست سياسية. وتتفق جميع الأديان على مجيء هذا المنقذ لتحقيق العدالة بين البشر ومنع استعباد الإنسان لأخيه الإنسان ورفع الظلم عن المظلومين... لا يفيد المسلمين، لأي طائفة او مذهب انتموا، استحضار المهدي المنتظر واقحامه في السياسة، والتشديد على طابعه المذهبي عبر انتمائه الى فئة محددة، ثم الإعلان عن خروجه من مكة المكرمة، بما يوحي بهيمنة مذهب على آخر. وهذا ما ينبئ بتواصل هذه الحروب عشرات السنين، إن لم يكن مئاتها.


* كاتب لبناني